عندما قام باراك أوباما بأول زيارة له إلى أميركا اللاتينية، كان أذكى من أن يتوقع حفاوة الاستقبال. حدث هذا عام 2009، حيث كان «المدّ الوردي» للقادة القوميين الميّالين إلى اليسار يتعاظم. وكان يضمر في نفسه نيّة التخلّص من الشكوك السياسية التي تسود المنطقة في قمة الأميركيتين التي نظمت في ترينيداد وتوباغو، بالدعوة إلى إعادة ترتيب العلاقات بين دول النصف الغربي من الكرة الأرضية، بما في ذلك إعادة العلاقات مع كوبا. والآن، وبعد ثماني سنوات على تلك الزيارة، ما الذي يتذكره أوباما عنها؟ وماذا بقي من مفهوم «الشراكة الحقيقية من أجل تعزيز الرخاء والأمن الوطني» بحسب وصفه لموضوع النقاش الذي دار في تلك القمة؟ يمكن تلخيص كل ما حدث بعد ذلك في أن حكومته لم تخصّ أميركا اللاتينية إلا بأقل قدر من الاهتمام. وبسبب انصرافها للاهتمام بحربي العراق وأفغانستان والصراع الدائر في سوريا والقضايا الآسيوية، لم يبقَ أمام إدارة أوباما المزيد من الفرص لإطلاق مبادرات جديدة من شأنها أن تحسّن الأوضاع في حديقة بيتها الخلفية. والحقيقة أن العلاقات بين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية غالباً ما كانت تتعرض للانتكاسات لأسباب متعددة، مثل الهجرة غير الشرعية، والجرائم الدولية المرتبطة بتجارة المخدرات. لكنها كانت تتحسن بطرق لم يكن أحد يتخيلها قبل بضع سنوات. ولنبدأ بالقرار الأميركي بتحقيق تقارب مع نظام كاسترو في كوبا. وكان مستشار نائب وكالة الأمن الوطني «بين رودس» قد أشاد بتلك الخطوة ووصفها بأنها «السبب الأول الذي يمنحنا القدرة على تطوير علاقاتنا مع النصف الغربي من العالم». ولا شك أن هذه المقولة تنطوي على كثير من المبالغة. وقد لعب الانكماش الاقتصادي الذي شهدته المنطقة نتيجة عقد من المشاكل السياسية الشعبوية، تزامناً مع التخمة العالمية من المواد الأولية التي تعدّ العماد الأساسي لاقتصاد أميركا اللاتينية، دوراً بارزاً في زعزعة مواقف قادة أميركا اللاتينية الذين اتخذوا من معاداة واشنطن شعاراً لهم. وبإعادة العلاقات مع كوبا، يكون أوباما قد نجح في وأد آخر معالم النزاع الذي رافق فترة الحرب الباردة، ورفع الغطاء عن مشاهير الاستبداديين في المنطقة! وقال ماثيو تايلور، الباحث في الجامعة الأميركية: «كان المحور الأساسي لسياسة أوباما في المنطقة، يعتمد على الفكرة القائلة بأن العلاقات العدائية مع دول أميركا اللاتينية يمكنها أن تقوّي من عضد أولئك اللاعبين السياسيين الذين يشكلون الخطر الأكبر على مصالح الولايات المتحدة. وأن علاقات الصداقة مع الديمقراطيات القائمة هناك، والاتجاه نحو عقد الشراكات بدلاً من الإملاءات السياسية، سيسمح لنا بقطف أفضل الثمار على المدى البعيد». والشيء الواضح الآن هو أن إقامة العلاقات المبنية على الصداقة كانت مهمة عامرة بالأخطاء، ومنها مثلاً أن إدارة التجسس في واشنطن عمدت إلى التنصّت على الهاتف المحمول للرئيسة البرازيلية السابقة دلما روسيف، مما أدى إلى فضيحة دفعت بروسيف إلى إلغاء زيارة كانت تعتزم القيام بها للولايات المتحدة عام 2013، وهو عمل دقّ إسفيناً في العلاقة بين الولايات المتحدة وأكبر دولة شريكة لها في أميركا اللاتينية. وكان رهان الإدارة الأميركية على التجارة مع آسيا بمثابة الضربة الموجهة إلى جارات الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية، والتي تستأثر بخمس التجارة الخارجية للولايات المتحدة. وجاء الآن دور ترامب ليزيد الطين بلّة بالإعلان عن عزمه إلغاء اتفاقية «الشراكة عبر الأطلسي». وكانت هناك بعض الحوادث ذات الأهمية الأقل والتي ساهمت في تسميم علاقة أميركا بجيرانها، ومنها السلوك غير المقبول لعملاء المخابرات الأميركيين خلال القمة الأميركية بمدينة قرطاجنة الكولومبية في أبريل 2012 والذين أساؤوا إلى سمعة أوباما. وساهمت أخطاء وهفوات أميركية أخرى في تعكير العلاقات بين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية مثل التردد في إغلاق سجن غوانتنامو. ويذكر أن العديد من المبادرات الأميركية الجريئة بشأن العلاقات مع أميركا اللاتينية كانت جاهزة قبل مجيء أوباما السلطة. وكان بوش الابن هو الذي قدم الدعم الكبير إلى كولومبيا في حربها ضد المتمردين وعصابات تهريب المخدرات ضمن «خطة كولومبيا». كما أن الرؤساء السابقين لأوباما طالبوا بتطبيق نظام التجارة الحرة بين شطري القارة الأميركية، الجنوبي والشمالي، ونادوا بفتح الحدود وتنشيط التجارة. ومع ذلك، فإن معظم النشاط الدبلوماسي الأميركي للتقارب مع أميركا اللاتينية ذهب أدراج الرياح. فقد سارع القادة اليساريون السابقون، من أمثال الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو شافيز والبرازيلي السابق لولا دا سيلفا والأرجنتني السابق أيضاً نيستور كيتشنير، لإطلاق النار على معاهدة التجارة الحرة، لأنهم رأوا فيها مؤامرة لليبرالية الجديدة للاستيلاء على المنطقة. ولعل أوباما سجل نجاحاً في بناء أسس جديدة لتعزيز العلاقات مع أميركا اللاتينية، وفي تخفيض حدّة الأصوات الأميركية الناقدة لتبجحات بعض القادة اللاتينيين المتمسكين بأفكارهم. ماك مارجوليس: محلل سياسي برازيلي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرغ نيوز سيرفس»