على الرغم من أن إندونيسيا، التي تعتبر كبرى الدول الإسلامية لجهة عدد سكانها البالغ 250 مليون نسمة، تقطنها أغلبية مسلمة بنسبة 89 بالمئة وأقلية مسيحية بنسبة 7.9 بالمئة (الباقون من الأقليات التي تدين بالهندوسية والبوذية والأديان البدائية)، فإن علمانيتها وتسامحها الديني جعلا مناصبها الرسمية متاحة أمام جميع مواطنيها بغض النظر عن الهوية الدينية لشاغلها، إذ إن معايير التعيين تنحصر في مدى ولاء المعني بالأمر للوطن والدستور إلى جانب الكفاءة. وهكذا ذهبت حقائب وزارية مهمة، ومناصب عسكرية قيادية، ومسؤوليات أمنية حساسة، إضافة إلى التعيينات الدبلوماسية الخارجية إلى شخصيات إندونيسية غير مسلمة، دون أن يثير ذلك حساسية أو احتجاجات في أوساط الجماهير، فيما عدا أولئك المنتمين إلى بعض الجماعات الإسلامية المتشددة من تلك التي لم يشتد عودها في إندونيسيا إلا في العقدين الأخيرين على غرار ما حدث في دول جنوب شرق آسيوية أخرى. غير أن علمانية إندونيسيا وصورتها الدينية المتسامحة، التي تحاول أن تحافظ عليها في مواجهة موجات التطرف والإرهاب التي ضربت المنطقة ولم تستثنها، باتت اليوم على المحك وينتظرها اختبار صعب على ضوء الجدل القائم اليوم حول حاكم جاكرتا «باسوكي تاهاجا بورناما». فما هو أصل الحكاية، وماهي خلفياتها؟ لنبدأ من منصب حاكم العاصمة جاكرتا الذي له خصوصية وأهمية كبرى لأن شاغله بإمكانه أن ينطلق منه فيخوض سباق الوصول إلى رئاسة الجمهورية، وذلك على النحو الذي فعله الرئيس الحالي «جوكو ويدودو»، ذلك أن الأخير، قبل وصوله إلى قصر «مرديكا» الرئاسي خلفاً للرئيس السابق «سوسيلو بانبانج يودويونو» في عام 2014، كان يحكم جاكرتا واستطاع من خلال منصبه أن يُسوق نفسه وإنجازاته جيداً فبنى شعبية حملته إلى المنصب الأعلى في البلاد. وهذا تحديداً ربما كان في ذهن حاكم جاكرتا الحالي الذي حقق شعبية جيدة في أوساط سكان العاصمة الإندونيسية البالغ تعدادهم أكثر من 10 ملايين نسمة، على الرغم من كونه أول مسيحي يشغل هذا المنصب منذ نصف قرن. غير أن شعبية الحاكم «بورناما»، بحسب استطلاعات الرأي، بدأت تتآكل منذ أن انتقد في سبتمبر الماضي علماء الدين المسلمين في إندونيسيا بقوله إنهم يفسرون خطأ آية في القرآن تفرض على الناخب المسلم ألا ينتخب سوى المرشح المسلم. وبطبيعة الحال، وكما حدث ويحدث عادة في مثل هذه الأحوال، شحذ الغلاة والمتشددون أسلحتهم الإعلامية وجندوا كل طاقاتهم للوقوف بالمرصاد للحاكم، بسبب ديانته المسيحية ليس إلا، وقاموا برفع دعوى قضائية ضده أمام المحاكم، زاعمين فيها أنه أساء إلى القرآن الكريم، ومطالبين بإقالته وسجنه ومنعه من الترشح مجدداً لانتخابات حاكم العاصمة المقرر إجراؤها في فبراير 2017. وبالفعل نجح المتشددون في تجييش سكان جاكرتا ضد حاكمهم وإخراجهم من مساكنهم في مسيرات باتجاه المحكمة للضغط على قضاتها. ويبدو أن قضاة المحكمة تأثروا بالضجيج الذي أحاط بالقضية فحكموا على عجل برفض إسقاط التهم الموجهة إلى الحاكم حول إساءته المزعومة إلى القرآن مع منعه من السفر، حيث ورد على لسان القاضي «دويارسو سانتيارتو» أن «التهم التي وجهتها النيابة شرعية على الرغم من شكوى الدفاع بأن المحاكمة جرت على عجل». في نظر مراقبي الشؤون الإندونيسية، تحمل هذه التطورات في طياتها أكثر من مؤشر. فهي أولاً مؤشر على قدرة المتشددين الإندونيسيين على غسل العقول وتجييش الناس لإحداث التأثير الذي يسعون إليه، على الرغم من عدم امتلاكهم لثقل كبير في مجتمع جاكارتا المتنور. وهي ثانياً مؤشر على استمرار الخلل المزمن في الجهاز القضائي الإندونيسي، على الرغم من حملة الإصلاح والتطهير التي قام بها الرئيس السابق «يودويونو» قبيل انتهاء ولايته. وهي ثالثاً مؤشر على سعي بعض الأطراف لوضع الدواليب منذ الآن في طريق الحاكم المسيحي «بورناما» كيلا ينجح في التجديد لنفسه في انتخابات فبراير القادم التي قد ينطلق منها لدخول السباق الرئاسي عام 2019. والمؤشر الثالث يفيد بأن ما أثير حول الحاكم «بورناما» له بعد ديني، وله أيضاً بعد سياسي يكمن في رغبة بعض القوى السياسية الدفع بـ«هاريمورتي يودويونو» ابن الرئيس السابق إلى الواجهة كي يفوز بمنصب الحاكم، خصوصاً أنه جاء في استطلاعات الرأي بالمركز الثاني خلف «بورناما». والحال أنه إذا ما خسر «بورناما» قضيته أمام القضاء بدرجاته المختلفة، وتمت إدانته، فسوف يقضي مدة عقوبة لن تقل عن خمس سنوات، وهو ما سيؤمن لمنافسه «هاريمورتي يودويونو» أن يفوز، وبالتالي سيحقق رغبات من يقف وراءه من قوى سياسية.