هذا العنوان ليس لي بل هو عنوان العدد السنوي لمجلة «أفق» التي تصدرها مؤسسة الفكر العربي. وقد كتبتُ فيه ضمن خمسين كاتباً. وهذا العنوان يتصل بالكتابات بالعربية في الدين والثقافة والسياسة والاستراتيجية في السنوات الخمس الماضية. إذ كانت تلك الكتابات تستجيب ظاهراً للتحديات، مثل التطرف الديني والإرهاب، وثقافة العصر وعصر العالم، وكيف يمكن إعادة النظر في الفكر والسلوك السياسيين عند العرب، وإلى أين نحن متجهون في السنوات المقبلة؟! وماذا نستطيع فعله للخروج من المأزق؟ بيد أنّ تلك الكتابات غلب عليها الطابع الصحفي السريع، حتى لو صدرت في كتبٍ ضخمة. وكان عذر الكثيرين هو حالة السيولة في النظام الدولي، وفي التصرفات الإقليمية المتأثرة بحالة السيولة تلك! والواقع أنّ التعليل ما أوضح شيئاً، بل زاد الأمر غموضاً. فقد رأينا أنّ الدول الكبرى بمجلس الأمن لم تختلف كثيراً بشأن الأحداث الجارية في الشرق العربي، وما انزعجت حقاً للاعتداءات الإسرائيلية على سوريا ولبنان وفلسطين. وها هي تزعُمُ منذ أكثر من سنتين شنّ حربٍ عالمية على إرهاب «داعش»، ولا تأبه لوجود عشرات الآلاف من الميليشيات الإيرانية والمتأيرنة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، تفعل ما تفعله «داعش» من القتل والتخريب وأكثر! ليست هناك إذن حالة ضياع في النظام الدولي العظيم. ومع ذلك فلستُ أطلب من المثقفين العرب الكبار تحليل حالة النظام الدولي، والخروج بالنتائج التي قد تفيد في تشخيص حالتنا وعلاجها، بل ما أطلبه أقلّ من ذلك بكثير وهو تحليل ظاهرة التطرف في الدين، وكيف تطورت إلى إرهاب. ولا شكّ أنّ جزءاً كبيراً من الظاهرة المفجعة له أسبابه الداخلية في التفكير الديني والسياسي والاجتماعي. أما الأمران الآخران اللذان يمكن أن يفيد فيهما المثقفون العرب فهما: الأوضاع الثقافية، وأوضاع الدولة الوطنية وكيف يمكن إنقاذها. إنّ أبرز خصائص الثقافة العربية المعاصرة هي التركيز على الخصوصيات في ما يشبه التدقيق الأنثروبولوجي الذي لا يُسمنُ ولا يُغني من جوع، بل يُضخِّمُ المشكلات كأنما هي مستقرةٌ في طبيعتنا وإنسانيتنا. وفي الوقت نفسه هناك شتمٌ مستمرٌّ منذ عقود لكل ما هو عربي عام، بحجة أنه كان فاشياً أو أنّ الأنظمة الفاشية تبنتْهُ ونشرته وحكمت باسمه. بيد أنه ليس هناك كثيرون يسألون عن مصائر هذا «التذرُّر» الذي لا يظهر في الكتابات والروايات فقط، بل ويظهر بفظاعة أعظم بالطبع على الأرض في تهجير الناس وقتلهم، ونيات وخطط إقامة الدويلات على الأرض العربية هنا وهناك. وإذا قيل: ما دخْلُ الثقافة في ذلك وبخاصة أنها خطط سياسية واستراتيجية، فالجواب هو التسليم من جهة، والحماس للدخول في مغامرات قسمة البلدان من جهةٍ ثانية. بينما تخفُتُ بالتدريج الأصوات والتصرفات الداعية للإبقاء على وحدة البلدان، وعلى إمكان إعادة التآلُف بين الناس! الأمر الآخر الذي ينبغي أن تكون أولويةً لدى المثقفين والمهتمين بالشأن العام، هو أمر الدولة الوطنية، إذ هي مدخلنا إلى الوجود الإنساني والسياسي. وبالطبع سيقول كثيرون: لكنْ بسبب فشل تجارب الدولة انصرف غالبية الناس عنها، والإجابة أنه بسبب وجوه الفشل لا بد من تدارُك الأخطاء والأخطار، والإقبال على التصحيح وإقامة الحكم الصالح، ليزول نفور الناس من دولتهم التي ناضلوا لإقامتها، ولا يمكنهم العيش من دونها. نحن محتاجون إذن إلى أمرين: الثقافة الشاملة ذات الشقين العربي والعالمي، والنضال الثقافي والسياسي من أجل إنقاذ الدولة الوطنية من تذرُّر الداخل وتغولات الخارج. الثقافة العربية الشاملة، واستعادة الدولة الوطنية، تحديان وواجبان حيويان إذن، لا تؤثر فيهما السيولة، ولا حالة عدم التأكد. وينبغي أن لا نكفَّ عن تذكير أنفسنا، نحن المثقفين بذلك كل يوم. هل لذلك كله جدوى؟ الأجواء شديدة الكآبة والتشاؤم، لكن حياة الأمم لا تقاس بالأعوام، والناس يحتاجون إلى استنهاضٍ وتجديد للأمل. وهذه مهمة المثقفين والإعلاميين والمعنيين بالشأن العام.