أي تسوية سلمية مستقبلية في سوريا لن يكون هاجسها الرئيس هو إبقاء بشار في السلطة، بل سيكون هدفها الرئيس إبقاء سوريا دولة موحدة أثار سقوط حلب الأسبوع الماضي آلامَ الكثيرين ممن تعاطفوا مع سكان هذا البلد الجميل الذي هدمت قوات الأسد وحلفاؤه مدنه وقراه، كما شردت وهجَّرت واحداً وثلاثين ألفاً من سكان هذه المدينة، إضافة إلى ملايين المهجَّرين من المدن السورية، والذي بلغ تعدادهم قرابة أربعة ملايين لاجئ. والكارثة الإنسانية على ضخامتها ليست هي الشيء الوحيد الذي حل بسوريا، فالمدن السورية التي قصفتها الطائرات السورية والروسية تحتاج إلى بلايين الدولارات لإعادة بنائها. أما بالنسبة للمعارضة السورية، فإن عليها أن تعيد تخطيط استراتيجياتها، فالمنهجية القديمة في تحرير المدن السورية في ظل عدم وجود غطاء جوي أو دفاعات أرضية قد أثبتت فشلها، وبات على المقاومة تبني أساليب العصيان المدني وحرب العصابات ضد قوات الأسد والقوات الإيرانية وقوات «حزب الله» المتحالفة كالقوات الروسية على الأرض. وهذا بالضبط ما حاولت موسكو تفاديه عبر توقيعها على وقف إطلاق النار لأنها لا تريد أن تنجرَّ إلى حرب استنزاف في الريف السوري يعيد ذكريات استنزاف قواتها في حرب أفغانستان قبل عدة عقود. لذلك سارع بوتين إلى توقيع وقف إطلاق النار محاولة لتحويل انتصاره في حلب إلى تسوية سياسية تكون لصالح تحالفه مع حكومة دمشق. والحقيقة أن أي تسوية سلمية مستقبلية في سوريا لن يكون هاجسها الرئيس هو إبقاء بشار الأسد وطغمته الحاكمة في السلطة، بل سيكون هدفها الرئيس إبقاء سوريا دولة موحدة لا تمزقها الجماعات السياسية والعرقية المختلفة في البلاد، بحيث تصبح مجموعة دويلات كردية وعلوية ودويلات متعددة أخرى. وهنالك عدة نقاط يمكن التركيز عليها مستقبلاً في أي حل سلمي في سوريا أولها أن تكون الاجتماعات المستقبلية مرتكزة على مبادئ (جنيف- 1)، وأن تُعقد في مدينة محايدة، ولا مانع من عقدها في (الآستانة) إذا أصرت روسيا على ذلك، لأن المهم ليس مكان عقد الاجتماع على رمزيته، بقدر الاهتمام بنتائج مثل هذا الاجتماع. وشعب سوريا العربي بحاجة إلى دول عربية تحميه، وفي مثل هذه المفاوضات، في ظني أن المملكة العربية السعودية هي واحدة من أهم الدول العربية التي ينبغي أن يكون لها حضور قوي في أي اجتماعات مستقبلية بشأن سوريا، وأن يكون حضورها فاعلاً ومسانداً لوفد حكومة المنفى السورية ومقاومتها الوطنية. وإذا لم تشارك الحكومات العربية في مثل هذه الاجتماعات فإن سايكس بيكو جديدة بشأن سوريا وخريطة سياسية لسوريا المستقبلية سيتم رسمها في هذه المفاوضات. ويكفينا أننا قد فقدنا العراق وأصبحت بغداد بعدها رهينة لمشيئة طهران بسبب التأخر في التأقلم مع التغيرات في البيئة الإقليمية حينئذٍ. وإذا تعلمنا من شيء في نهاية الحروب الأهلية، فإننا سنجد أمامنا نموذجين بارزين أحدهما النموذج الأميركي، وهو يقوم على وقف إطلاق النار ومحاولة دعم أي حكومة أمر واقع جديد في البلد المعني، وربما غادرت القوات الأميركية ميادين الحروب، وهي منهكة دون الالتفات إلى متطلبات السلم اللاحق مثل تشكيل قوات حفظ السلام وغيرها من متطلبات السلم. أما النموذج الأوروبي فهو يقوم على تشكيل قوات شرطة مستقلة وقوية ممثلة لجميع طوائف الشعب بحيث تحافظ على السلام والأمن داخل المدن التي مزقتها الحروب الأهلية. بالإضافة لذلك يحرص الأوروبيون على تشكيل نظام قضائي نزيه. فأخشى ما يخشاه أي نظام ناجح للسلام هو أن تستغلَّ فئات من المافيا وغيرها من الجماعات النافذة، الفراغ الأمني والقضائي الناتج من تبعات الحروب الأهلية وتصادر حقوق الناس وأملاكهم، كما هو حادث في الحالة السورية التي تشهد تدمير مدن بأكملها وخراب بيوت وتهجير جماعي للسكان منها. أعان الله الشعب السوري على ما لقيه من آلام على يد بشار وزمرته وعلى يد المجرمين القادمين من طهران، ليقتلوا أبناء هذا الشعب ويشردوه. *أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود