حملق وحدق وارفق بحالك فلا تسمع إلا عن إنسان مهان وإنسانية محترقة، هذا على العموم في العالم أجمع، وليس بالمطلق، فلو كان كذلك فلن يبقى في الحياة أمل ولا في الإنسانية ملاذ. فصورة الإنسانية الصارخة مهددة في العالم الثالث الذي وصل ترتيبه الآن إلى الرابع بعد الكوارث التي حلت عليه من «داعش» و«عفاش» و«خفاش» الظلام. ولو بحثت في كل أجهزة البحث الإعلامية، فمن النادر أن تجد في السطر الأول خبراً عن إنسان يُكرم أو إنجاز يُعظم في زحمة الأحداث الساخنة في العالم. قبل أكثر من عقد كان خبر الطفل الجنوب أفريقي الذي أصيب بالإيدز هو الخبر رقم واحد على صفحات «بي. بي. سي» وغيرها من وسائل الإعلام السيارة، أما اليوم فلا نسمع منذ أكثر من خمس سنوات إلا عن تدهور «الربيع العربي» في مهده. ولن أطيل في هذا حتى لا أكون مثل بقية الأخبار الإعلامية المسيئة إلى نفوسنا منذ الصباح الباكر، فنحط رحالنا إلى اليابان، ليست الدولة التي خرجت من تحت أنقاض هيروشيما وناجازاكي لكي تحوز الرقم واحداً في الاقتصاد، متفوقة على أميركا التي أذلّتها بالقنابل الحارقة. لم تبن اليابان بعد تلك الكارثة الاقتصاد أولاً، بل الإنسان الياباني قبل الاقتصاد الذي سُخِّر له وليس العكس كما يحدث في كثير من بلدان العالم الرابع. أبدأ بالطفل الياباني وهو في رحم وأحشاء أمه، فهو مدلل من ساعته تلك، حيث تقوم الأم بتسجيل صوت الرحم على أشرطة خاصة حتى إذا ما خرج المولود مباشرة، وضعت عند أذنيه تلك التسجيلات «الرحمية» في فراشه، كيلا تتغير عليه البيئة التي عاشها خلال تسعة أشهر، فيتعود على البيئة الجديدة تدريجياً. وعند وصول الطفل إلى سن الحضانة مع انشغال الأم بالوظيفة الحياتية مواكبة لرتم المعاصرة، فإن قوانين الموارد البشرية في خدمتها وليست ضدها كما هو في العوالم الأخرى. فللأم العاملة حق وظيفي لاصطحاب طفلها إلى دار الحضانة والبقاء معه في الصف حتى يتعود ويتوقف عن بكاء فراق أمه، وهو جزء من همها الوظيفي الأمومي، الدولة اليابانية، والإنسانية أقرته لها، حتى تتمكن، بعد أن تهدأ نفسيتها وتطمئن إلى طفلها في الحضانة، من أداء واجبات وظيفة الدولة أو الحكومة، في أي مرفق كانت للمرأة العاملة بصمة حضارية. وفي أنظمة التعليم هناك شيء أثمن من التعليم ذاته، لأن الإنسان في هذا الزمن يمكن أن يعلِّم نفسه وهو ما يسمى «بالتعلم الذاتي» ولكن ما لا طاقة له به أن يربي نفسه، لذلك كان الله سبحانه يشرف بنفسه سبحانه على تربية أنبيائه ورسله وهو ما ذكره عن موسى عليه السلام «وَلِتُصْنَعَ عَلَى? عَيْنِي» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أدبني ربي فأحسن تأديبي»، أو كما قال حتى بلغ منزلة فوق ذرى الأخلاق العالية، في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ). نعود إلى اليابان، في الوقت الذي نركز فيه على التربية هناك دول ألغت «التربية» من أروقة وميدان التعليم، فلا يوجد رسوب من «أولى ابتدائي» إلى «ثالث متوسط» لماذا؟ لأن الهدف الأسمى هو التربية وغرس المفاهيم الراقية وبناء الشخصية المميزة في الأدب والأخلاق، لأن التعليم والعلم لاحق والأول سابق. أما العنصر البشري في الميدان التربوي وهو الأساس الصلب لبقية العناصر المطواعة فهو المعلم، أين موقع المعلم من الإعراب لدى المجتمع الياباني، فهو الذي أصبح في الأنظمة الأخرى ممنوعاً من الصرف، فعندما سئل رئيس وزراء اليابان عن سر التطور التكنولوجي باليابان فأجاب: «أعطينا المعلم راتب وزير وحصانة دبلوماسي وإجلال الإمبراطور»، هذا ففي بعض المجتمعات العربية يضرب المعلم «بالنعال» وكأنه لم يسمع عن (قم للمعلم وفه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا)، لقد سحب عن المعلم في مجتمعات العالم الرابع أمران؛ الإجلال والرسالة، فأصبح هامشاً بعد أن كان متناً. ذهب معلم اللغة العربية العربي في إحدى الجامعات اليابانية غاضباً إلى إدارة الموارد البشرية في مؤسسته محتجاً على خطأ وقع في حساب راتبه في الكشف الشهري، عندما وجد فيه مبلغاً خيالياً، فجلس إليه المسؤول قائلاً: «ليس هناك خطأ، بل هو الراتب الذي تستحقه إن كان أكثر من راتب رئيس الوزراء، فبحساب السيرة الذاتية العلمية للمعلم ومقارنتها برئيس الوزراء، فقد فاق مالياً ما يستحقه رئيس الوزراء». هذا هو الإكرام الحقيقي للإنسان في اليابان، وما نريد سماعه في مجتمعات العالم الرابع ليس أكثر من هذا، فساعتها تحل الصراعات وتقف الحروب وتذهب الفتن أدراج الرياح عندما يُعاد الإنسان إلى مكانه الحقيقي في كل المجتمعات وليست اليابان استثناء حتى الآن.