يمكن القول إنه استقرت تقاليد فكرية معينة في الثقافات المتقدمة من بينها أهمية ممارسة النقد الذاتي المعرفي الذي يقدم عليه المثقفون عموماً والمفكرون خصوصاً حين تتبدى لهم أوجه النقص في الأيديولوجيات التي يعتنقونها، والتي تحدد مواقفهم الفكرية واتجاهاتهم السياسية، أو حين تظهر السلبيات الخطيرة في تطبيق هذه الأيديولوجيات. ومعنى ذلك أن النقد الذاتي المعرفي لأيديولوجية مفكر ما قد يأتي نتيجة تحليل نقدي متعمق لأسس هذه الأيديولوجية، أو بسبب ظهور السلبيات الجسيمة في ممارستها الواقعية. وحتى لا يكون حديثنا على سبيل التجريد سنتناول بالتحليل النقد الذاتي المعرفي للماركسية باعتبارها الأيديولوجية التي هيمنت على الفضاء الفكري العالمي بعد اندلاع الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 بقيادة «لينين»، والذي أسس الاتحاد السوفييتي. ومنذ هذه اللحظة التاريخية الفارقة اندلع ما يكن تسميته «الحرب الباردة الفكرية» بين الماركسية وأنصارها من ناحية، والرأسمالية وأتباعها من ناحية أخرى سواء على مستوى الدول وعلى مستوى نخبها الفكرية والسياسية. ويمكن القول إن هذه المعركة الشرسة بين الماركسية والرأسمالية استمرت طوال القرن العشرين إلى أن انتهت بالهزيمة الكاملة للماركسية، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والذي كان المعقل الرئيس لها نظرية وتطبيقاً. ولن ندخل الآن في المناقشة المهمة الخاصة بأسباب الانهيار المتعددة سياسية كانت أم اقتصادية أم ثقافية، فذلك يتجاوز حدود مقالنا الوجيز. ولو تأملنا المعارك الفكرية التي دارت بين الماركسية والرأسمالية لاكتشفنا على الفور أن الممارسة السياسية للماركسية على الطريقة اللينينية وصفت بأنها تطبيق سيئ للنظم السياسية الشمولية التي تلغي الفرد باعتباره فرداً له حقوق سياسية واقتصادية وثقافية، كما هو الحال في ظل الرأسمالية وتذيبه في المجموع بحيث يصبح أشبه ما يكون بـ«ترس» في آلة الدولة الاشتراكية الضخمة. من ناحية أخرى وجهت إلى الماركسية في تطبيقها السوفييتي انتقادات اقتصادية عنيفة على أساس أن «اقتصاد الأوامر» الذي يلغي المنافسة- كما هو الحال في الرأسمالية- نظام فاشل وسيعجزن عاجلاً أم آجلا عن تنفيذ التنمية المستدامة من ناحية وتحقيق التقدم الحضاري من ناحية أخرى. وقد أتيح لي باعتباري باحثاً في العلم الاجتماعي أن أدرس التجربة السوفييتية دراسة عميقة من جانب، وأن أتعمق في دراسة التجربة الرأسمالية- خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية- من جانب آخر. وقد سمحت لي القراءات المتعمقة عن هاتين التجربتين- بالإضافة إلى زيارات ميدانية مهمة من خلال المؤتمرات التي حضرتها هنا وهناك أو الحوارات، التي نظمتُها حين كنت أميناً عاماً لمنتدى الفكر العربي (1990-1992) وأهمها الحوار العربي السوفييتي الأول- أن أمارس نوعاً من النقد الذاتي المعرفي، وخصوصاً ما يتعلق بإيماني الكامل بالمبادئ الرئيسة للماركسية التي تعمقت في التعرف إليها، وأنا في بواكير الشباب من واقع قراءتي للأدبيات الماركسية باللغة الإنجليزية وأهمها على الإطلاق كتابات «كارل ماركس» «ولينين» و«بليخانوف» وغيرهم من فلاسفة الماركسية. وكنت قد انجذبت إلى النظرية الماركسية وذلك في بداية الخمسينيات بحكم انشغالي الشديد بمشكلة العدالة الاجتماعية قبل ثورة يوليو 1952 حين كانت الفروق الطبقية بالغة العمق بين من يملكون ومن لا يملكون في ريف مصر وحضرها مما أدى إلى شيوع الفقر الشديد بين الطبقات الدنيا والوسطى. غير أن متابعتي الدقيقة للتجربة السوفييتية أقنعتني أن تطبيق الماركسية على الطريقة اللينينية ليست سوى فرض نظام ديكتاتوري على المجتمع يصادر الحريات السياسية للمواطنين، ويصبح الحزب الشيوعي هو مصدر الشرعية ومنبع القرارات الكبرى في المجتمع. وهكذا أصبح ممثلو الحزب الشيوعي في كل مؤسسات الدولة لهم الكلمة العليا حتى ولو كانوا يفتقرون إلى الكفاءات والخبرات اللازمة. وحين تعمقت في بحث سلبيات التجربة السوفييتية اكتشفت أن سماتها الديكتاتورية هي أهون الشرور، لأن السبب الأعمق للفشل لها في الواقع أسباب فلسفية عميقة أخطرها جميعاً إنكار الطبيعة الإنسانية التي تنحو في كل مكان وبدرجات متفاوتة إلى تحقيق الصالح الفردي في المقام الأول قبل تحقيق الصالح الاجتماعي. وقد رجعت إلى مرجع معتمد نشر بالإنجليزية وتضمن كل المراسيم الاشتراكية التي أصدرها زعيم الثورة البلشفية «لينين» فوجدت أن المرسوم الأول هو مصادرة الملكية الخاصة مصادرة كاملة، والمرسوم الثاني إلغاء الصحافة الحرة بزعم أنها تعادى الثورة. وتبين لي أن إلغاء الملكية الخاصة تماماً، هو السبب العميق وراء الفشل النهائي للتجربة السوفييتية. وذلك لأنه لا يستطيع زعيم سياسي يتبنى أيديولوجية كالماركسية ويفسرها على هواه ليّ عنق الطبقية الإنسانية وإجبارها إجباراً على العمل مظهرياً للصالح العام وإهدار الصالح الخاص تماماً. ومن هنا ساد الفساد كل المؤسسات السوفييتية لأن مندوبي الحزب الشيوعي أرادوا تحقيق مصالحهم الذاتية الخاصة ولو على حساب الصالح العام. وعلى العكس تماماً في النظم الرأسمالية التي تفسح المجال واسعاً وعريضاً لتحقيق الصالح الخاص، فإن الفردية المطلقة قضت في التطبيق على العمل للصالح الاجتماعي، ومن هنا سادت الأنانية وانتشر الاستغلال لدرجة أن الغش التجاري أصبح وكأنه مهارة مطلوبة للنجاح!