شعرت روسيا بالمباغتة من قرار إدارة أوباما طرد 35 موظفاً في السفارة الروسية وإغلاق مجمعين وفرض عقوبات على رؤساء استخباراتيين كبار، رغم أن رد الفعل الأميركي كان واحداً من التحركات الدبلوماسية المتوقعة. وهذا الإجراء غير مسبوق في عالم ما بعد الحرب الباردة. ومنذ شهور، مع تصاعد فضيحة القرصنة الرقمية لروسيا والاشتباه بتدخلها في الانتخابات الرئاسية الأميركية، لم تحرك إدارة أوباما ساكناً، ورفضت الكشف عن الصلات بين العملاء الروس و«ويكيليكس». وصرح فلاديمير فرولوف، الخبير الأمني والمستشار السابق في الحكومة الروسية، بأنه كان يتوقع رداً أكثر دقة في الاستهداف. ولخصت مارجريتا سيمونيان، رئيسة تحرير «آر. تي» (روسيا اليوم)، الذراع الدعائية الناطقة بالإنجليزية لـ««الكرملين»»، المزاج داخل الصفوة الروسية، حين كتبت على «تويتر» تقول: «أوه.. إني مرعوبة للغاية!». وردُّ موسكو على ما تعتبره عملا عدوانياً من الغرب يتمثل عادةً في اتخاذ إجراء مماثل أو أشد. فحين تمت تبرئة رجل أميركي يتبنى طفلا روسياً من قتل هذا الطفل -لأن الطفل لقي حتفه جراء ضربة شمس بعد تركه في سيارة لتسع ساعات- ردت السلطات الروسية بقانون متشدد يحظر تبني الأسر الأميركية لأطفال روس. وفي عام 2005، تعرض ثلاثة من أبناء دبلوماسيين روس لهجوم في العاصمة البولندية وارسو، فواجه ثلاثة من البولنديين مشكلات مماثلة في موسكو. ويؤكد فيودور لوكيانوف، الخبير المقرب من صفوة السياسة الخارجية الروسية، أن «المبدأ هو أنه لا يمكنك إصابة روسيا بأي شيء دون توقع حدوث الشيء نفسه لك». لكن التحرك الأميركي لم يؤدِّ إلى تحركات روسية آنيّة. ووعدت ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم الخارجية الروسية، في تدوينة على «فيسبوك»، بإصدار «بيانات رسمية وإجراءات مضادة وأشياء أخرى بجانبها». وكانت هناك توقعات بأن ««الكرملين»» يستعد لهجوم آخر على أهداف غريبة تعتبر سهلة، ربما على جماعات رعاية الأيتام وجماعات حقوق الإنسان. وصباح يوم الجمعة الماضي، لمَّحت وسائل الإعلام إلى الرد الروسي المحتمل. وانتشرت تقارير بشأن احتمال إغلاق مدرسة «أنجلو أميركان» في موسكو، والتي يدرس فيها أبناء الدبلوماسيين الأجانب، واحتمال إغلاق مقرات إقامة الدبلوماسيين الأميركيين. و«اقترح» وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف على ««الكرملين»» طرد 35 دبلوماسياً أميركياً. ومع تقدم الوقت، أصبح من الواضح أن «الكرملين» يستعد لاتخاذ رد فعل أكثر تعقيداً. وبدأ عدد من المتحدثين باسم الحكومة يرسمون صورة لعقوبات فرضها شخص يحمل ضغينة؛ فهذه عقوبات فرضها باراك أوباما وليس دونالد ترامب، وهي ليست حتى عقوبات أميركية. وهي عقوبات فُرضت في دفقة نهائية ويائسة من الكراهية لرئيس محدود الصلاحيات في نهاية فترته الرئاسية! وذكرت زاخاروفا أنه حتى وزير الخارجية الأميركي جون كيري كان رجلا طيباً قضى عليه رئيس مندفع عاطفياً. ثم وقعت المفاجأة نحو الساعة الرابعة مساء بالتوقيت المحلي، يوم الجمعة، في بيان نُشر على موقع «الكرملين»، أفاد بأن روسيا قد لا تقْدم على اتخاذ الحد الأدنى المتوقع من الرد الدبلوماسي للطرد الانتقامي، وأنها «لن تلجأ إلى دبلوماسية المطبخ السياسي غير المسؤول، لكنها ستخطط لمزيد من الإجراءات لإصلاح العلاقات الروسية الأميركية بناءً على سياسات إدارة ترامب». ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن بوتين نفسه دعا أبناء الدبلوماسيين الأميركيين إلى حفلة أقامها بمناسبة رأس السنة الميلادية. وبهذا يوضح الرئيس الروسي تحولاً كاملاً في دبلوماسيته التي اشتهرت بالعدوانية. وتكتيكياً يعتبر هذا انتصاراً. وعقوبات إدارة أوباما التي كان المقصود بها أن لا تغيّرها إدارة ترامب لم يعد تغييرها أمراً بعيداً للغاية في ما يبدو. ولمحة بوتين الودودة تجاه أبناء الدبلوماسيين تزيل أي شكوك بشأن التوجه المحتمل للسياسة الروسية في ظل إدارة ترامب. ويرى فرولوف أن ترامب أصبح يعد «عميلاً روسياً غافلاً، وكل شيء يقوم به الآن سيعتبر رداً لهذا العمل والخدمات الانتخابية السابقة». وهذا بالطبع جيد لـ«الكرملين». وقد تحدث أشخاص من داخل «الكرملين» عن حالة الحبور وسط قطاعات معينة من الصفوة. فانتخاب ترامب وتعيين أشخاص يميلون إلى «الكرملين» مثل اختيار توماس جراهام سفيراً أميركياً في روسيا غيّر الخريطة الجيوسياسية حسب اهتمامات موسكو. ومعظم الاقتصاديين يتوقعون رفعاً جزئياً للعقوبات العام المقبل. ومع الأخذ في الاعتبار إرهاصات التحسن، فالأمر يتطلب شجاعة حتى يزعم المرء أن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة لن تتحسن. لكن ليس هناك ما يضمن تحسنها بالدرجة المتوقعة. والخلافات الواضحة في وجهات النظر بشأن أوكرانيا وإيران والصين، ما زالت عقبات كؤود ستجد إدارة ترامب صعوبة في التغلب عليها. أوليفر كارول: محلل سياسي يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»