لا أحد عاقل يقول إن عاملاً واحداً ووحيداً أدى إلى نشوء ظاهرة التطرّف في هذه المنطقة، فلا أحد يقول إن المناهج وحدها تقف وراء الظاهرة، أو أن الخطاب الديني هو المسؤول عن كل شيء، أو أن التراث الملغوم هو المشكلة الوحيدة، أو أن غياب ثقافة الحياة وحده المتهم ولا متهم غيره، أو أن ضيق مساحة الآداب والفنون في الفضاء العام يؤدي إلى ذلك، أو أن الغزارة الفقهية في مقابل الجفاف الروحي هي لبّ المشكلة، أو أن التزمّت الديني هو المقدمة الوحيدة للتطرف. ورغم أن لا أحد يقول ذلك، يتحيّن بعضهم الفرص لنفي أي أثر لتلك العوامل في نشوء ظاهرة التطرف، فإذا فاز عربي بجائزة علمية مرموقة، وكان قد درس في بلده، علّق قائلاً: المناهج المدرسية تخرّج عباقرة وليس متطرفين يا سادة يا كرام! وإذا ارتكب غربي مذبحة بالساطور أمام مدرسة ابتدائية، تساءل بتهكم: هل هذا السفاح تأثر بالخطاب الديني أيضاً؟! وإذا تبين أن مرتكب الحادث مسلم لم يُعرف عنه الانكباب على كتب التراث وثني الركب أمام مشايخ التطرف، تساءل باستنكار: أين من يلقون بالمسؤولية على الموروث؟! لماذا صاروا كالمزهريّة؟! وإذا أكد جيران الإرهابي أنه كان يطارد الفراشات في الحقول، ويعزف الناي في شرفة شقته المطلة على النهر، ويغني للقمر الذي ينعكس على صفحة الماء، علّق بارتياح: العزف لم يجعل منه إنساناً محباً للحياة! ويضيف بذكاء لا يحسد عليه: موسوليني كان صحفياً بارعاً وكتب رواية! هتلر كان مولعاً بالرسم ومغرماً بالمتاحف! ستالين كان عاشقاً للسينما إلى درجة أنه كان يكتب سيناريوهات الأفلام وكلمات الأغاني وخلّف دواوين شعرية! ماوتسي تونغ كان شاعراً، وشعره رومانسي! صدام كتب بعض الروايات! خامئني كان يعزف الموسيقى قبل الثورة! ويتناسى هؤلاء أن بواعث القتلة واللصوص على سلوك طريق الإجرام تختلف من مجرم إلى آخر، وهكذا بالنسبة للإرهابيين، فربّ إرهابي حرّكته الفتاوى، بينما رفيقه في القتل والنسف كارهٌ لكل جميل، وصاحب لهما ضحية مناهج تعليمية متعصبة، والرابع نشأ في بيئة متزمتة تعادي الآخر، وربما اجتمعت في بعضهم كل العوامل، أو بعضها، وربما كانت هناك عوامل أخرى إضافية. و«ماو» لم يهذبه الشعر، ويبقى الشعر مرققاً للنفوس، وموسوليني لم يغيره الأدب، ويبقى الأدب موسعاً للآفاق، كما أن الكثير من المجرمين لم يعزفوا مقطوعة ولم يقرؤوا رواية ولم يشاهدوا فيلماً، ومع هذا يحلو لهم الكلام حول سحق الجماجم، والدعوة إلى جهنم. والقدر المتيقن منه أن العوامل التي يحاول بعض سدنة مؤسسة «ما وجدنا عليه آباؤنا» إبعادها عن دائرة الضوء لا تخُرج بشراً سويّاً، متكيفاً مع شروط العصر، ومتصالحاً مع العالم، ومتسامحاً مع الآخر، ولا يهم بعد ذلك إن تحول إلى كائن وحشي يدهس بشاحنته المارّة، أم قنع بدور المحامي عن كل ما ألفه وتوارثه، لا يريد تنقيحاً للمناهج المدرسية، ولا مراجعة للخطاب الديني، ولا نقداً للموروث، ولا مساً بثقافة الموت والكراهية، ولا الاقتراب من حصون التزمت الديني.