إنّ مشاهد الحروب وأشلاء القتلى وصور القمع والجوع والمناظر المروعة في مناطق كثيرة من العالم، التي تبثها شاشات الإعلام عبر الفضائيات، تعيد اليوم قضية الأخلاق والسياسة إلى دائرة البحث. فمَنْ يبيح اللجوء إلى كلّ الأساليب المتاحة لنصرة قضية ما؟ وهل الغاية تبرِّر الوسيلة؟ وهل يمكن الاعتقاد بأنّ عدالة أي هدف تبيح لأصحابه استخدام ما يحلو لهم من وسائل حتى لو داست أقدامهم القيم والمثل التي حملتها البشرية والأديان السماوية؟! إنّ المشهد السياسي الدائر الآن يُظهر بوضوح أنّ عالم السياسة عالم المهمات الصعبة، وما يحدث فيه من نفاق وتلفيق وكذب وشراء ذمم وتشويه حقائق وقلب الباطل حقاً للوصول إلى هدف، لمصلحة دولة أو جماعة، يجرّد السياسة من الأخلاق، وكأنّ السياسة تعادي الأخلاق.. كلّ ذلك بسبب أولئك السياسيين الذين اعتمدوا مبدأ «الغاية تبرّر الوسيلة» ضاربين عرض الحائط بالإنسانية والإنسان، تاركين مبدأ السلام. وسياسة المصالح والخيانات والمؤامرات الداخلية أو الخارجية، ومنطق العنف والقوة في رسم مسارات حياة الشعوب وتوجيهها، وإباحة كلّ الوسائل والطرائق لتحقيق الأهداف والمصالح على نهج ميكافللي.. قد باعدت الهوة بين السياسة والأخلاق، وربما أعلنت هزيمة الأخلاق أمام السياسة، فالسلوك الميكافللي يتنكر صراحة لجميع الفضائل الأخلاقية حين يبرر استعمال كل الوسائل لتحقيق الغايات السياسية، كما هو واضح في كتاب «الأمير»... وهذا ما جعلنا نكوّن رؤية سوداوية تشاؤمية حول العمل السياسي ورجال السياسة الذين بدَوا رجال مصالح بأي ثمن، فهتلر الذي تبنى مبدأ الغاية تبرر الوسيلة جنى عداءات وجرّ ويلات لألمانيا، والأمر نفسه مع موسوليني وستالين اللذين باتا رمزين للدكتاتورية التي أباحت لنفسها كل وسائل القمع والاضطهاد، لأهداف وضعاها فوق كلّ اعتبار. إنّ وظيفة الأخلاق والسياسة تكمن في تقديم رؤية مُسبقة، تجعل لحياة الناس هدفاً ومعنى، لما فيه خيرها ومنفعتها، وفق مبادئ ونمط من العلاقات الإنسانية، لكن الاختلاف يكمن في نوعية هذه المبادئ والعلاقات التي قد تصل حد التعارض بينهما. ونؤكّد في هذا الصدد مقولة تولستوي الشهيرة أنّ «الشرّ لا يقتل الشرّ، والنار لا تُطفئ النار»، فعلينا الاحتكام إلى الأسلوب المدني المتحضر والحوار الفعال حقناً للدماء، وتجنباً لمآسي الدول وإبعاد طريق العنف والقوة. إنّ الصراعات المفتوحة، والمشاكل المطروحة، والعلاقات المشبوهة، واستباحة حقوق الناس.. كل ذلك قتلٌ للبيئة الإنسانية، الأمر الذي يجعل من المواطنة فكرة شكلية غريبة عن الواقع الذي تحكمه سياسة السيادة لا المواطنة، وبذلك لن تكون للعمل السياسي فائدة ترجع على المواطنة بالخير والرقي والازدهار، لتجرده من الفضيلة. وأخيراً، لا نطمح أن نكون مثاليين، ولكن نريد الحفاظ على إنسانية الإنسان، ومواطنته وتهيئة المناخ المناسب من خلال عمل سياسي مدروس يعيد لكلّ دولة حريتها وكرامتها ويصون حقوقها، وعلى الباحثين الاجتهاد والتفكير في عقد اجتماعي مبني على أسس ديمقراطية وقوانين ومبادئ تحترم حقوق الإنسان، وتكوّن مناخاً مناسباً لبناء علاقة بين السياسة والأخلاق ليلتقيا في أهداف تُسعد البشرية، ولا تكون سبباً لتعاستها ومآسيها. ولذلك، ربما تمثل الفلسفة الأخلاقية اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، ضرورة لا غنى عنها، ما دامت الغاية هي الحفاظ على الإنسانية وتحقيق كونية أصيلة تصالح بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان والطبيعة. فالواقع العالمي اليوم يعلن الحاجة إلى فلسفة أخلاقية للسياسة. د. محمد البشاري* *أمين عام المؤتمر الإسلامي الأوروبي