أيام قليلة هي الباقية على تسلم دونالد ترامب الرئيس الأميركي المنتخب مهام عمله في البيت الأبيض، مع إدارته الجديدة التي تم اختيارها وفقاً لمعايير جديدة بثت روح الأمل والتفاؤل لدى كثيرين، والتشاؤم والتوجس لدى أطراف أخرى في نفس الوقت، مما يعطي مؤشراً لعدم وضوح الرؤية بعد وعدم استطاعة تحديد ملامح الفترة المقبلة. وما يلفت الانتباه أن هناك تحولاً كبيراً ومحسوساً في شخصية وخطاب ترامب المرشح وترامب الرئيس المنتخب، وهو ما يتوقع أن ينسحب أيضاً على سلوك وسياسات إدارته المقبلة، والحال أن ترامب حينما كان لا يزال مرشحاً يخوض غمار حملة الانتخابات كان يتحدث بسقف سياسي عالٍ، ولا يخلو أحياناً من دغدغة لمشاعر وتطلعات الناخبين الأميركيين من «اليمين» والطبقة الوسطى البيضاء التي تمثل أغلبية ناخبة كبيرة في بلاد «العم سام». ولكن مع انقضاء الحملة الانتخابية وبعد إعلان فوز ترامب كرئيس للولايات المتحدة الأميركية بدأ تغير المعادلة والموقف يفرض عليه الحديث بسقف سياسي واقعي، وبنبرة تصالحية مع منافسيه السياسيين داخل أميركا نفسها، وبنبرة الزعامة العالمية على صعيد دولي خارجي. ولذا فإن من المحتمل بقوة أيضاً أن تكون لترامب لمسات ومواقف شخصية مختلفة ومغايرة تماماً لما كان معروفاً عنه من مباشرة وعفوية وصراحة، وسيفرض عليه المنصب والدور فور دخوله المكتب البيضاوي في البيت الأبيض وبدء ممارسته عمله بشكل رسمي كرئيس للقوة العظمى الأميركية. ومع اقتراب موعد التسلم والاستلام بين الرئيس المنصرف أوباما والرئيس المنتخب ترامب، نجد أن أوباما يدفع لاختلاق أزمات سياسية جديدة قبيل مغادرته البيت الأبيض، والدفع نحو التصعيد خاصة في العلاقات مع الدب الروسي. ففي البداية أطلقت إدارة أوباما اتهامات لموسكو بالتلاعب ومحاولة التأثير في نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية، مدعية ضلوع مخبرين روس في قرصنة بريد اللجنة الحزبية «الديموقراطية»، ونشر تسريبات ضد هيلاري كلينتون، الأمر الذي ساهم في خسارتها، ووصول ترامب إلى سدة الحكم. ودعت إدارة أوباما بعد ذلك الجهات الأمنية للتحقق مما اعتبرته اختراقاً، حتى يثبت للعالم أن هناك تزويراً أو تأثيراً خارجياً في الانتخابات، وأن ترامب لا يستحق ذلك الكرسي! وأكاد أجزم بأن مثل هذه الاتهامات بالتزوير والتأثير الخارجي ربما تكون هي المرة الأولى التي نسمع فيها دولة عظمى تُصدّر الديموقراطية إلى شتى أنحاء الأرض، ومع ذلك تقر على نفسها بفشل ديموقراطيتها وعدم شفافية عمليات اقتراعها، وغير ذلك من تشويش على أوجه القوة والرسوخ السياسي التي ظلت تدعيها طيلة تاريخها الطويل، وقد مثل تردد إدارة أوباما لمثل هذه الاتهامات، لحظة ضعف وتشكيك حقيقية في النموذج الديموقراطي الأميركي نفسه، أو هو بمعنى ما إقرار من هذه الإدارة بأنها قد أوصلت أميركا خلال ثماني سنوات إلى حال سياسي شبيه بحال جمهوريات الموز في العالم الثالث، التي يتم التزوير والتأثير الخارجي في انتخاباتها، على أوسع نطاق. تماماً مثلما أن هذه الاتهامات لموسكو إقرار رسمي من طرف أوباما بفشل سياسته بإعادة ضبط العلاقة مع روسيا، التي أعلنها في بداية عهده. والواضح الآن أن توقيت افتعال أزمة جديدة مع موسكو له دلالته وتداعياته المقصودة تجاه الروس سواء أكان ذلك بمجرد توجيه الاتهام لهم بالضلوع في تزوير الانتخابات، أو طرد 35 دبلوماسياً روسياً، وإغلاق مقرين روسيين في مكانين مختلفين في أميركا. ويبدو أن التحرش الأميركي بروسيا يعبر عن رغبة أوباما، ومن حوله، في استمرار تفاقم الصراع الروسي الأميركي، وإيصال ترامب إلى طريق مسدود سلفاً مع الروس لا يستطيع أن يجد منه مخرجاً، ليبدأ مأموريته في لحظة تحدٍّ وفِي ظرف دولي غير مريح. وربما يكون ضمن الأهداف أيضاً تفويت فرص توصل إدارة ترامب مع الرئيس الروسي بوتين إلى حل جديد أو مخرج للأزمة السورية التي أكملت عامها الخامس دون أن تجد القوى العظمى أي طريق لتسويتها، ولا حل في الأفق الآن، ويُخشى وجود مؤشرات للدفع إلى تقسيم لا محالة وتفتيت يُرضي الإسرائيليين، وبخاصة بعد امتناع الأميركان عن التصويت في قضية الاستيطان وعدم استخدامهم «الفيتو»، للوقوف بجانب تل أبيب في موضوع إدانة الاستيطان الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والحاصل أن أوباما وهو يلملم أوراقه الآن للمغادرة، يعطي كل الانطباعات الممكنة بأن تركته السياسية الدولية تناقض النهاية فيها البداية، فهذا الرئيس الذي منح جائزة نوبل للسلام بشكل استباقي شبه مجاني في بداية عهده ينتهي به المطاف وهو يغادر رافعاً خطاب المواجهة والتصعيد مع الروس، مذكّراً بأن له رأياً جدياً في قضايا السلام، واستقرار العالم، وبأن عهده الممتد على مدار الـ8 سنوات الماضية زادت فيه الأزمات في مختلف مناطق العالم، وزادت الاضطرابات والصراعات الدامية وبؤر التوتر النازفة، وأدى أيضاً تردد إدارته وعدم حسمها إلى تفاقم تهديد التنظيمات الإرهابية التي باتت أشد فتكاً وأكثر خطراً على الإنسانية من تلك التي سبقتها.