يبدو أن موسكو في الهدنة الجارية بعد حرب حلب (حيث الهدنة لها ثلاث اتفاقيات: وقف إطلاق النار بين الحكومة السورية والمعارضة المسلحة، وإجراءات للرقابة على وقف إطلاق النار، واستعداد الأطراف السورية لبدء مفاوضات السلام حول التسوية في أستانا) تُسوّق لنا أبعاداً إقليمية ودولية متناهية الأهمية في حالة نجحت موسكو في إنهاء الثورة السورية. نسلط الضوء على الأبعاد الإقليمية لكونها هي الأهم في استمرار وتعقيد الثورة السورية، حيث هناك صراع إقليمي بين كتلتين «السنة والشيعة» حيث العراق خاضع للسيطرة الإيرانية، وسوريا أرض حرب لهذا الصراع كما اليمن ونظام بشار محسوب على الكتلة الشيعية، ولبنان ساحة لصراع وتجاذب النفوذ والطوائف، ومن الأبعاد كون معظم دول الخليج العربية تمضي نحو صد الزعزعة الإيرانية الشيعية في المنطقة، وإنْ تصادمت مع بعض الرؤى الأميركية والروسية، بينما الأتراك يسعون نحو تحقيق مصالحهم الأمنية والاقتصادية في سوريا والمنطقة. أجل كل تلك الأبعاد تحمله الثورة السورية، فقد نجحت موسكو في جمع طهران وأنقرة في الوضع السوري ومسارات الثورة السورية المتصارعة خصوصاً بعد حرب حلب الأخيرة والاتفاق على وقف إطلاق النار، وهذا لا يعني عدم وجود خلافات أو مصالح متضاربة بين الأطراف الثلاثة، ولعل التوافق الروسي- التركي هو الأهم في سوريا لما يحمله من تغيرات إقليمية ودولية، أما الدور الإيراني رغم قوته، فهو عسكري بميليشيات شيعية متعددة وقوى تتبع إيران، حيث النظام السوري «بشار» في يد موسكو الممثل الرسمي والواقعي له، ولا تستطيع طهران أن تفسد النصر الروسي في ملف الثورة السورية لأنها تحتاج إلى دولة كبرى كروسيا، خصوصاً وهي مقبلة على عهد ترامب في البيت الأبيض. مما لا شك فيه أن العلاقات الروسية التركية تحمل الكثير للطرفين، فأنقرة تحصل على غاز روسي رخيص ودور اقتصادي في تصديره ولها أسواق روسيا لمنتجاتها علاوة على دور السياحة الروسية، وترى تركيا في علاقاتها مع روسيا كسب المزيد من القوة في دورها الإقليمي مقابل إيران، وأيضاً نحو تغيير سياسات الغرب وواشنطن معها، والتي لم تراعِ مصالح وأمن تركيا في منطقة الشرق الأوسط. ويكفي روسيا في تركيا موقعها الجغرافي وأنها حليف تقليدي للغرب يجيد تحقيق مصالحهِ الخاصة، والأهم من كل ذلك تمثيلها للمعارضة السورية المسلحة أمام موسكو ويمكن أيضاً اعتبار تركيا ممثلاً لدول إقليمية مهمة تدعم سقوط ورحيل نظام بشار، حيث موسكو في الهدنة الحالية التي ستقود إلى مفاوضات أستانة «عاصمة كازاخستان» تدعو دولاً إقليمية ودولية إلى دعمها خصوصاً السعودية وإدارة ترامب المقبلة، لأن الثورة بدأت بين الشعب السوري ونظام بشار وتوسعت لتشمل أطرافاً سورية متصارعة ومتناحرة ومصالح وتداخلاً أمنياً إقليمياً ودولياً عاكسةً أيضاً صراعات غربية مع روسيا. نكاد نجزم بأن أنقرة مثل موسكو لا تريدان تقسيم سوريا، أما إيران في الواقع فلا يهمها وحدة سوريا، بل تطمح إلى إكمال مشروعها التوسعي المذهبي ببقاء نظام بشار ووجود قواتها في سوريا، وهذا واضح من تحليلنا بأن القيادة التركية تبدي مرونة في سبيل وحدة سوريا في إتاحة فترة زمنية لبقاء نظام بشار وإن كانت تشترط عدم بقائهِ في هرم النظام ثم يتم رحيلهُ بصور متعددة، ولا يشوب هذه المرونة عيب لكونها مقرونة بمصالح تركيا الأمنية في سوريا وبالتحديد «حزب الاتحاد الديمقراطي لأكراد سوريا»، حيث تركيا لا تريد أن ترى في سوريا كياناً كردياً يجاورها كما هو في العراق. وربما قبول الرؤية الروسية في بقاء نظام بشار لفترة يقابلهُ تعهد روسيا بتحقيق المصالح الأمنية والاقتصادية التركية، فتلك المصالح قادت روسيا وتركيا لتحقيق دائرة للمعارضة المعتدلة والمسلحة حيث اعتبرت تركيا «جبهة النصرة» منظمة إرهابية، كما أن روسيا تُجري اتصالات مع المعارضة السورية المعتدلة والمسلحة وتضغط عليهم عبر تركيا وتتكفل هي بتمثيل نظام بشار. وإذا استطاعت موسكو وأنقرة تغيير شكل النظام السوري «نظام بشار» من صبغتهِ المذهبية فإنهما سوف تضعفان الصراع المذهبي في المنطقة، وهو بمثابة خسارة كبيرة لإيران ومشروعها المذهبي التوسعي الذي سيلقي بظلالهِ على الوضع في لبنان واليمن والعراق إلى حد كبير، ولعل في حالة خسارة إيران نظام بشار سيكون ذلك أمراً محفزاً لبعض العراقيين القوميين بأن يسعوا إلى التخلص من النفوذ الإيراني وإنْ كان الأمر عسيراً في البداية. ويجد بعض المعارضين السياسيين الإيرانيين للسياسة المذهبية الإيرانية الإقليمية أن خروج نظام بشار من السلطة تخفيف من المخاطر المحدقة بإيران جراء استمرار سياساتها الإقليمية العدوانية مع استنزاف الموارد المالية الإيرانية، وفي هذا الصدد ستكون دول مجلس التعاون الخليجي قريبة من إعادة الاستقرار إلى حد مقبول لمنطقة الخليج خاصة والشرق الأوسط عامة، وربما أتى انضمام عمان للتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب بقيادة السعودية مؤشراً على أن إيران لن تستطيع الاستمرار بسياساتها العدوانية والتوسعية وتفكيك إرادة الدول العربية. ويكفينا هنا على المستوى الدولي ما قامت به إدارة أوباما مؤخراً في آخر أيامها المعدودة من طرد 35 من الدبلوماسيين الروس، وتروج واشنطن لأن الأسباب تعود إلى عمليات التجسس الروسية، فواشنطن البارعة في عمليات التجسس العالمية والأقوى قدرة عليه حتى على حلفائها الغربيين، والحقيقة تكمن في أن الدور الروسي في سوريا والشرق الأوسط عكس الفشل الكبير لإدارة أوباما ويؤكد استمرار بقاء روسيا في أمن واستقرار وصراعات الشرق الأوسط. عوداً على بدء، الهدنة الحالية ومستقبل المفاوضات في أستانة يُحتم على الدول الإقليمية العربية الفاعلة دعمها والتفاعل مع الدور الروسي الذي سيحمل تخفيفاً للصراع بين الكتلتين الإقليميتين السُّنية والشيعية، فالعراق خاضع لسيطرة إيران، وسوريا أرض حرب، واليمن كذلك، ولبنان ساحة صراع ونفوذ، وهناك دول إقليمية وخارج المنطقة ترغب في اللعب بهذا الصراع.