خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، كان في جعبة دونالد ترامب الكثير من الكلام العجيب الذي نطق به حول التغير المناخي، ومن ذلك مثلاً وصفه له بأنه لا يعدو أن يكون مجرد «خدعة صينيّة» تهدف إلى تقويض قدرة الولايات المتحدة على تصدير السلع والخدمات! أو أنه لا يمثل أكثر من «استنتاج علمي مزيّف» لم يتم إثباته بالمناهج التجريبية! وأعلن ترامب، وبافتخار، بأنه سيعمل على إلغاء «معاهدة باريس للمناخ» التي تم التوافق بشأنها في شهر ديسمبر 2015، والتي تُعدّ أحد المنجزات الأساسية للرئيس أوباما. وأثناء الحملة الانتخابية، لم يأخذ معظم المحللين كلام ترامب على محمل الجدّ للدرجة التي هيأت لهم أنه على وشك خسارة نتيجة الانتخابات لصالح هيلاري كلينتون التي اشتهرت بدعمها القوي لفكرة تطوير الطاقات البديلة والالتزام ببنود معاهدة باريس. أما الآن، وبعد أن أصبح ترامب رئيساً منتخباً بالفعل، وبعد أن بدأ بتعيين كبار المسؤولين في إدارته، فقد أصبح هناك الكثير من المخاوف حول نتائج السياسات التي سيتبعها على الجهود الأميركية والعلمية الهادفة للحدّ من الانبعاثات الكربونية، ودعنا نتأمل في اختياره لوزير خارجيته «ريكس تيلرسون» الذي ترأس شركة «إكسون موبيل» خلال السنوات العشرين الماضية، ورغم أنه ليس من ناكري ظاهرة التغير المناخي، فإن الشركة التي ينطق باسمها كانت واحدة من أواخر الشركات النفطية العملاقة التي تعترف بضرورة التعامل مع ظاهرة التغير المناخي بالجدية التي تستحقها، واختار بعد ذلك النائب العام لولاية أوكلاهوما «سكوت برويت» لمنصب رئيس «وكالة حماية البيئة»، وهي المؤسسة التي كانت موضع سخرية ترامب وبرويت معاً، وهما اللذان عبرا عن نيتهما إلغاءها من الوجود تماماً، ومعروف أن أوكلاهوما، وهي الولاية الأكثر إنتاجاً للبترول والغاز الطبيعي في الولايات المتحدة، كانت هدفاً للكثير من الإجراءات التحذيرية والوقائية من طرف وكالة حماية البيئة، لحثّها على التخفيف من استخدام الوقود الأحفوري وبخاصة الفحم الحجري، وفيما يتعلق بوزارة الداخلية التي تشرف على التحكم بالأراضي الفيدرالية في القطاعين الجنوبي والأوسط من الولايات المتحدة، عمد ترامب لتسمية عضو الكونجرس الغِرّ «ريان زينكه» وزيراً لها، وهو الذي اشتهر بأحاديثه المتكررة حول ضرورة إلغاء العديد من القوانين والتشريعات التي سبق أن نادى بها مشاهير البيئيين الجمهوريين من أمثال الرئيس الأسبق ثيودور روزفلت (الذي حكم البيت الأبيض بين عامي 1901 و1909). ولعل ما هو أدهى وأمر، أن ترامب عمد إلى تسمية الحاكم السابق لولاية تكساس، «ريك بيري»، وزيراً للطاقة، وهي الوزارة التي كان «بيري» ذاته يطالب بإلغائها تماماً فيما مضى. وإذا تمت الموافقة في مجلس الشيوخ على تعيين هؤلاء الرجال، فإنهم سوف يسعون إلى تقويض كل القوانين التي وضعها أوباما والرؤساء الذين سبقوه للحفاظ على البيئة والحثّ على تطوير مصادر الطاقات البديلة التي لا تعتمد على حرق أنواع الوقود الأحفوري. ورغم كل ذلك، فإن الحقائق القائمة الآن تشير إلى أن الجهود الدولية والأميركية المحلية الهادفة لتبنّي إجراءات ومعايير تسمح بالحدّ من نتائج ظاهرة احترار جو الأرض، بلغت بالفعل مستوى عالياً من التقدم، وإلى أن ترامب سوف يجد أن من العسير تغيير مسار تلك الإنجازات بسبب ما تحظى به من دعم عالمي قوي. وحتى داخل الولايات المتحدة ذاتها، وفي ولايات مهمة، مثل كاليفورنيا ونيويورك، سوف تصطدم الحكومة الفيدرالية بصعوبات بالغة لو فكرت بالتراجع عن القوانين والإجراءات المعتمدة لحماية البيئة والحدّ من ظاهرة التغير المناخي. ولعل الأهم من كل ذلك هو أن البيروقراطيات الإدارية القوية في الحكومة الفيدرالية ووزارة الدفاع تقوم الآن بالفعل بجهود جبارة للتخفيف من تداعيات ارتفاع مستوى سطح البحار وبقية الظواهر الناتجة عن تغير المناخ على المنشآت العسكرية. ولا تقتصر المشاكل المرافقة لتلك الظاهرة على أن ارتفاع مستوى سطح البحار يمكن أن يؤدي إلى غرق القواعد البحرية الضخمة التابعة لوزارة الدفاع على الشواطئ الأميركية وحدها، بل وفي بعض دول العالم الأخرى أيضاً. والآن، أصبحت قواعد بحرية مثل قاعدة «نورفولك نافال بيز» في ولاية فرجينيا تعاني من السيول الخطيرة الناتجة عن المدّ البحري المتكرر وغير المعهود، والذي بات يمثل خطراً على منشآت القاعدة كلها. ولم يعد بوسع ترامب الوقوف ضد هذه الإجراءات حتى لو غلبه الاقتناع بأنها لا تتعلق بظاهرة احترار الكوكب. وعلى المستوى الدولي، سوف تصبح الولايات المتحدة بلداً منبوذاً لو أعلن ترامب عن نفض يديه من معاهدة باريس، ولن يحظَى بعد ذلك بدعم حلفائه في أوروبا، ولا بتأييد الصين والهند اللتين تعانيان مستويات مرتفعة من التلوّث الخطير في أجواء المدن، مما لم يعد بوسع حكومتيهما غض الطرف عنه. والآن، وبعد أن طلع ترامب بكثير من البِدَع السياسية، بما فيها طرد 11 مليون مهاجر غير قانوني، ومنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، وبناء الحائط الضخم على طول الحدود مع المكسيك، فعليه أن يعمل بجد على تعديل خططه الجامحة بحيث تتحول إلى سياسات يغلب عليها عنصر الواقعية.