شاع في السنوات الأخيرة لفظ «ما بعد» في الخطاب الثقافي العربي، بشكل لافت، تعدى حدود الاستعمال العلمي للفظ، إن وجد، إلى مجرد ترديده، كنوع من المثاقفة أو محاولة بلوغ آفاق يعجز واقعنا عن الوصول إليها. وإذا كانت الذهنية العربية قد استوعبت مصطلح «ما بعد الحداثة» لكثرة ترديده على ألسنة نقاد الأدب والفلاسفة، ثم تجليه في النصوص الإبداعية، رغم أن المجتمع العربي لم يتعد بعد مرحلة «التحديث» ناهيك عن مرحلة «الحداثة»، فإن انسحاب المصطلح على أوضاعنا السياسية يبدو أمراً مثيراً للغرابة والدهشة، تعادل دهشة مفكرين في الغرب ذاته حين يتلقون حديث البعض منهم عن «ما بعد العلم» و«ما بعد الإنسان»! في هذا المقام لا ننسى من تحدث ذات يوم عن مرحلة «ما بعد صدام»، متجاوزاً وقتها حدود الحالة السياسية التي كان العراق يعيشها إلى فضاء شبه معرفي ينحو إلى التجريد، ويحتشد بالتفاؤل المفرط، وكأن «الصدامية»، إذا جاز التعبير، مرحلة تطور اجتماعي وسياسي ذات سمات معينة، كان يجب على المجتمع العراقي أن يفارقها ويلج إلى ما يليها، محدثاً قطيعةً تامةً مع الماضي. وعلى النقيض من ذلك فإن ما يجري في العراق حالياً يبرهن بجلاء على أن الأمور لم تتغير إلى مستوى يجعل من الممكن القول إن عهد صدام، بأحواله السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد ولى. فكل ما حدث في الحقيقة لا يعدو كونه استبدال الاستبداد البعثي بالاستبداد الأميركي ثم الاستبداد الطائفي. وهناك من يتحدث عن وصولنا إلى «ما بعد الإسلام السياسي»، مع أن أتباع هذه التيار، أفراداً ومؤسسات، متطرفين ومعتدلين، تزدحم بهم الساحة من غانة إلى فرغانة. ورغم فشل مشروعهم وجنوحه بالعرب والمسلمين إلى حواف الخطر الدائم، فإنهم يعيدون تنظيم صفوفهم، وتعزيز وجودهم الاجتماعي والسياسي، رغم تداعيات ما بعد حدث 11 سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك ما جرى للعالم من كوراث بسبب «القاعدة» و«داعش»، وما ظهر من زيف المشروع الإخواني الذي رفع شعارات براقة، فلما وصلوا إلى الحكم في مصر وتونس، ظهرت الفجوة الهائلة بين الخطاب والممارسة، وبين الشعارات والتصرفات. المعالجات السطحية لأخطار هذا المشروع، والمقاربات المتعجلة التي تبين عدم صلاحيته بمقولاته وتصوراته تلك، لزماننا، لم تفلح بعد في تفكيكه، لنصبح بالفعل في مرحلة «ما بعد الإسلام السياسي». فهذا التيار يستفيد من تأخر المعركة الفكرية والاجتماعية الشاملة ضده، وعلو صوت الأمن على ما عداه، ليستجمع قواه، ويستمر في نشر خطابه، وإظهار نفسه بمظهر المضطهد أو المحاصر، بحثاً عن تعاطف ومساندة جديدين، لنصبح إزاء حلقة جديدة في سلسلة الخداع. من جهة ثانية وصل الأمر بالبعض إلى أن يتحدث عن «ما بعد إسرائيل»، وهذا تبسيط ساذج لواقع سياسي مرير يفرض إسرائيل فرضاً بمساندة القوى الأولى في العالم وتواطؤ كل من يأتي بعدها في مقاييس القوة، وحالة التصدع التي يشهدها النظام الإقليمي العربي المحيط بها. فالحديث في هذا الاتجاه ينطوي على انحياز إلى «حتمية تاريخية» ذات جذر ديني تارة وميثولوجي تارة أخرى، تتنبأ بفناء إسرائيل في نهاية المطاف، ومن الخطأ الاستسلام لها أو التعويل عليها، أو بناء تصورات وسياسات ومواقف حيال إسرائيل انطلاقاً من هذه الحتمية، التي تنتمي، في طرحها الراهن، إلى زمن لم يولد بعد. بل على العكس، من الضروري أن ننخرط في عمل عربي بنّاء وجاد، يكبح جماح النزعة العدوانية الإسرائيلية، ويقدم المساندة المادية والمعنوية للفلسطينيين. وهناك من يتحدث عن «ما بعد أميركا»، تعويلاً على التطور الحاصل في النظام الدولي. وبالطبع فإن منطق التاريخ يقول بلا مواربة إن الولايات المتحدة لن تستمر في قيادة العالم إلى الأبد، وأنها ستلحق بسابقاتها من الإمبراطوريات التي سادت وهيمنت على العالم. لكن الاعتقاد في أن الانهيار الأميركي بات وشيكاً مسألة تحتاج إلى تريث، لأن الولايات المتحدة ما تزال تمتلك الكثير من ركائز القوة، الاقتصادية والعسكرية والعلمية والإعلامية، ولديها أيضاً وسائل لتصحيح الخلل والزلل الذي يتعرض له مسارها، بما قد يؤخر انهيارها فترة أطول مما يعتقد أولئك الذين يتحدثون عن المرحلة اللاحقة عليها وكأنها آتية في الغد. إن شيوع هذا النوع من المصطلحات في بيئتنا بات ترفاً فكرياً أو «موضة»، أكثر من كونه تعبيراً عن حالات واقعية ملموسة، وبدا الأمر برمته وليد ثقافة مأزومة تهرب مما يجري وتلجأ إلى تخيل أوضاع طوباوية أو خارقة، وإنتاج ثقافة مهزومة تقلد الآخرين في استعمالهم لمصطلحات تشخص بيئة اجتماعية سياسية وحالة ثقافية تؤهلهم قدراتهم الراهنة لبلوغها، بينما نحن بعيدون تماماً عنها.