لم يكن المفكر العربي الكبير «صادق جلال العظم» رائداً للنقد الذاتي العربي فقط -بعد نشر كتابه الشهير «النقد الذاتي بعد الهزيمة»- ولكنه كان مفكراً نقدياً من طراز فريد. فقد أصدر عديداً من الكتب التي هزت أركان التقاليد العربية الجامدة في مجال الدين بكتابه «نقد الفكر الديني»، وفي مجال المحرمات السائدة في المجتمع العربي بكتابه «ذهنية التحريم» والذي أثار جدلاً واسعاً ومناقشات متعمقة بين عديد من المثقفين والكتاب العرب، وفي مجال الموضوعية في نقد الآخر الغربي بكتابه «الاستشراق والاستشراق معكوساً» الذي وجه فيه انتقادات موضوعية إلى المفكر الفلسطيني الكبير «إدوار سعيد» الذي أثار كتابه الأشهر «الاستشراق» مناقشات عالمية وعربية حول المركزية الغربية وتحيزاتها في رسم صورة الشرق باعتباره أدنى حضارياً من الغرب، وقد لفت نظري بشدة وأنا أقلِّب مؤخراً كتاب «العظم» «ذهنية التحريم» مقالة قصيرة ذات دلالة بالغة نشرها «العظم» في مجلة «الحياة الجديدة» العدد الرابع عام 1981، وضمَّنها الفصل الأول من كتابه في القسم الثاني والذي جعل عنوانه «في بعض قضايانا الثقافية - السياسية الراهنة». وعنوان المقال المهم «الوطن العربي اليوم في أطروحاتٍ عشر». وترجع أهمية هذا المقال القصير المركز إلى أنه يتضمن تشخيصاً دقيقاً لوضع الوطن العربي لحظة كتابته (عام 1981)، ويبرز في هذا التشخيص المنهج النقدى «للعظم» والقيم الأساسية التي يعتنقها فيما يتعلق بالديموقراطية، ونقد الديكتاتورية السياسية التي تمارسها على شعوبها الحكومات العربية، وخضوع الأنظمة العربية المختلفة لعمليات النهب الإمبريالي والهيمنة الخارجية. وعلى الرغم من أن هذا التشخيص النقدي سجله «العظم» عام 1981 فإن مرور الوقت -وإنْ كان قد غيّر بعض الأوضاع العربية وأبرزها على الإطلاق اندلاع ثورات الربيع العربي التي حلل أبعادها «العظم» في مقابلة مهمة أجرتها معه «زهور محمود» في 27 أبريل 2013- فإن عديداً من عناصر تشخيصه القديم ما زالت حية فاعلة حتى اليوم. وللذكرى والتاريخ نسجل بعض الأطروحات العشر المهمة التي صاغها «العظم» قبل أن نعلق عليها تعليقاً وجيزاً. وقد جاء في الأطروحة الأولى (لم يكن الوطن العربي في تاريخه الحديث مجرد «تعبير جغرافي» أكثر مما هو عليه اليوم، على الرغم من جميع البيانات الحكومية حول التضامن العربي والمشاريع الرسمية لتحقيق الوحدة العربية). أما الأطروحة الثانية فتذهب إلى أنه (لم يقع الوطن العربي في تاريخه الحديث فريسة سهلة للنهب الإمبريالي والهيمنة الخارجية والتلاعب الأيديولوجي أكثر مما هو حادث اليوم، مع العلم بأن ذلك كله يجري تحت شعارات حماية استقلال المنطقة العربية والدفاع عن انفتاحها واستقرارها). وتقرر الأطروحة الثالثة (لقد أصبحت البورجوازيات العربية الحاكمة اليوم على درجة كافية من القوة والبأس والثقة بالنفس بما يسمح لها بتغليب مصالحها الطبقية الكوزموبوليتية والمتعددة الجنسيات على المصالح الحيوية لشعوبها وبلدانها، مع العلم بأن ذلك كله يتم باسم الواقعية السياسية البعيدة في نظرها والرزانة الدبلوماسية الدقيقة في حساباتها). وتلفت الأطروحة العاشرة النظر بشدة من زاوية إدراكه الموضوعي للمكانة الاستراتيجية لمصر في النظام العربي فنجده يقول: «في الوطن العربي اليوم أخذ الأمل يتركز مجدداً على الطاقات الكامنة للجماهير المصرية من أجل شق طريق التحرر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي أمام الجماهير الشعبية العربية في كل مكان». هكذا تكلم «العظم» عام 1981. ويلفت النظر بشدة ثاقب فكره وقدرته على النفاذ إلى جوهر الظواهر، لأنه في أطروحته الأولى التي -ويا للغرابة- تنطبق تماماً اليوم على الأوضاع العربية الراهنة يقول «لم يكن الوطن العربي في تاريخه الحديث مجرد تغيير جغرافي» أكثر ما هو عليه اليوم بغض النظر عن جميع البيانات الحكومية حول التضامن العربي والمشاريع الرسمية لتحقيق الوحدة العربية. ونظرة سريعة على الاختلافات الجسيمة في مواقف الدول العربية من الحرب الأهلية التي اندلعت في سوريا تؤكد هذه الملاحظة الثاقبة. فهناك دول عربية تقف في وجه نظام بشار الأسد بالدعم المالي وبتوفير السلاح لقوى المعارضة سعياً وراء إسقاط النظام السوري في حين أن هناك دولاً عربية أخرى تحاول الإبقاء على النظام بمعونة دول عظمى في مقدمتها روسيا التي تدخلت عسكرياً بقوة لأول مرة في نزاع عربي عربي. ومن المؤكد صدق الأطروحة الثالثة التي صاغها «العظم»، وهي أن الوطن العربي لم يقع في تاريخه الحديث فريسة سهلة للنهب الإمبريالي والهيمنة مثلما هو حادث اليوم.