من يتابع الباحث إسلام بحيري يلاحظ أنه يسير على وتيرة واحدة في نقده لكتب التراث عبر برنامجه التلفزيوني، وأن أسلوبه لا يتغير من حلقة إلى أخرى، وأن لغته واحدة على طول الخط.. ومع هذا، بُرّئ في قضية ازدراء أديان من محكمة جنح أول أكتوبر، وأدين في أخرى من محكمة جنح مصر القديمة. والقاضي الجنائي يحكم بما يملي عليه ضميره ويطمئن إليه وجدانه ويرسخ في قناعته، حسب الأدلة والشهود ومناقشة المتهم وسماع دفاعه، وقد يختلف القضاة في نسبة الجريمة إلى المتهم، لكن لا يمكن أن يختلفوا بشأن وقوع الجريمة من عدمه. وإذا أكد الطبيب الشرعي أن الضحية تعرضت للاغتصاب، فللقاضي حسب قناعته أن يبرئ المتهم أو يدينه، لكن لا يمكنه نفي واقعة الاغتصاب. وإذا أكد المختبر الجنائي أن العملة مزورة، فليس في وسع القاضي أن يقول إنها عملة صحيحة. وإذا أكد الشاهد أنه سمع المتهم يطعن في شرف الشاكي، فقد يضرب القاضي بشهادته عرض الجدار، لكن لا يمكنه أن يقول إن الكلام الذي نُسب صدوره إلى المتهم لا يعد طعناً في الشرف. وعلى العكس من ذلك في جريمة ازدراء الأديان، فقد عُرضت حلقات برنامج إسلام بحيري على قاضٍ ولم يرَ فيها أي ازدراء للأديان، وعُرضت على قاضٍ آخر ورأى فيها ازدراءً للأديان. وفي أي نقاش ديني بين شخصين، قد تجد أحدهما يحتد ويدعو الآخر إلى الاستغفار، بينما الثاني يتعجب من رد فعل الأول، وهو ما يدعونا إلى التأمل في فكرة تجريم النقاشات الدينية. فرغم أن النصوص القانونية في هذا السياق حاولت تضييق نطاق التجريم وحصره في أمور محددة، كالذات الإلهية، أو الأنبياء والرسل، أو الكتب السماوية، أو أسس وثوابت وتعاليم الدين الإسلامي وما عُلم منه بالضرورة، فإن المعيار هنا شخصي وليس موضوعياً، ومن يقول غير ذلك ربما لا يدري أن الأمة اختلفت منذ بداياتها وحتى يومنا هذا، اختلافاً طال كل شيء، ابتداءً بذات الله وصفاته، مروراً بأسس الإسلام وما يعد معلوماً منه بالضرورة، وانتهاءً بالوضوء! ولم يكن القاضي يجامل بحيري حين لم يجده مذنباً، ولم يكن زميله يحمل ضغينة ضده حين وجده مذنباً، وإنما ببساطة، هذا يفهم الدين بطريقة وذاك يفهمه بطريقة أخرى، وما يعد مقدساً لدى هذا يختلف عما يعد مقدساً لدى ذاك، رغم أنهما ينتميان إلى الجهاز القضائي نفسه، ويحكمان بقانون واحد، وأمامهما برنامج واحد، ومتهم واحد. وكما اختلف القاضيان في اعتبار بحيري مذنباً، فالناس جميعاً، كانوا ولا يزالون مختلفين في كل ما يتعلق بالدين، وهذا لا يرى ذاك على شيء، وذاك لا يرى هذا على شيء، وشخص ثالث لا يراهما معاً على شيء. التوقف أمام ما حصل مع بحيري يعني كل الباحثين في التراث، بل كل المهتمين بالنقاشات التي تتعلق بالمسألة الدينية، والتي صارت القضية الأولى في المجتمعات العربية، خصوصاً أن «ازدراء الأديان» جريمة في الكثير من الدول العربية. وما زلنا نذكر الكاتب الأردني ناهض حتر الذي اعترضه شخص وأطلق النار عليه بينما كان في طريقه لحضور جلسة محكمة تتعلق بقضية ازدراء أديان.