بعدما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «أن روسيا بحاجة إلى تعزيز قدراتها العسكرية للقوة النووية الاستراتيجية»، ردّ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب مغرّداً بأنه «على الولايات المتحدة أن تعزز قدراتها النووية وتوسّعها في انتظار أن يأتي وقت» يعود فيه العالم إلى رشده». بهذه التحيات النووية بشّر الرجلان العالم بأن مرحلة سباق جديد إلى التسلّح توشك أن تبدأ على مستوى الدولتين العظميين، رغم أن بوتين وترامب حرصا طوال الشهرين الماضيين على تأكيد توجّههما إلى إقامة توافق بين البلدَين، بل إنهما عقدا تفاهماً هاتفياً دفع بوتين إلى إعطاء الضوء الأخضر للإجهاز على حلب. ثم أن انكشاف مزيد من الحقائق عن التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية، عبر التجسس الإلكتروني، لم يسترعِ أي اهتمام من ترامب الذي واظب على تسفيه وكالات الأمن الأميركية ومعلوماتها. بين وفاق أميركي- روسي موعود، وسباق إلى تسلّح نووي يذكّر بأحلك مراحل الحرب الباردة، تبدو إشارات الرجلين متناقضة، وأقلّ ما يقال فيها إنها تترك العالم في قلق شديد. وقد أعطى بوتين في مؤتمره الصحافي السنوي انطباعاً حاسماً بأن روسيا عادت بزعامته إلى حيويتها وفاعليتها، إذ بدا متخطّياً كل جدل بشأن شبه جزيرة القرم التي ضمّها عام 2014 ويستعد لضخ النفط إليها، كما أكد أن الاقتصاد الروسي بدأ يتحسّن رغم العقوبات الغربية وأزمة أسعار النفط اللتين ألحقتا به أضراراً فادحة. لكن الخبراء لا يشاركون بوتين تقويمه لوضع الاقتصاد، إلا أن الدبلوماسيين يقرّون سرّاً بأنه نجح في ابتلاع القرم بالقوة وبفرض أمر واقع لا علاقة له بأي قانون دولي. من الواضح أن بوتين التقط منذ أواخر (فبراير) 2014 أهمية الربط بين أزمتَي سوريا وأوكرانيا، ففي الأولى قدّم دعماً عسكرياً وسياسياً من دون تدخّل مباشر، لكنه جعل من النظام السوري خطّاً أحمر، وفي الثانية وفّر لانفصاليي شرقي أوكرانيا كل التسهيلات التي تمكنهم من تحدّي حكومة «كييف» وجيشها المدعومين من دول الغرب جاعلاً من القرم خطّاً أحمر وكل ما عداه قابل للمساومة. وعندما أدرك منتصف 2015 أن ورقة سوريا بدأت تضعف في يده، لأن نظام بشار بات في خطر، قرر أن يتدخّل مباشرة لتغيير موازين القوى، وحاول منذ اللحظة الأولى للتدخّل أن يفتتح مع واشنطن، أو مع باريس وبرلين، مساومةً لتبادل تنازلات في سوريا وأوكرانيا، ويمكن القول إنه واظب على عرض هذه المساومة حتى سبتمبر الماضي عندما توصّل وزيرا الخارجية الأميركي والروسي الى اتفاق بشأن سوريا لم يتح له أنه يُطبَّق. عندئذ قرر أن يمضي في عملية حلب معتبراً أن العمل مع إدارة باراك أوباما انتهى عملياً، ومراهناً على أن الانتخابات الأميركية ستأتي بإدارة مختلفة. وفي الأثناء كانت تجربة سنة من التدخل في سوريا أقنعته أكثر بأن لهذه «الورقة»أهمية تفوق تصوّره المسبق عنها. وهكذا أتيح لبوتين أخيراً أن يظهر كزعيم منتصر خارج من موقعة تاريخية كبرى في حلب، وليقول إعلامه وإعلام حلفائه إنه أنزل هزيمة نكراء بالإرهاب والإرهابيين. جاء ذلك تتويجاً لظاهرة لا تزال تتفاعل، وقوامها أن بوتين أصبح نموذجاً في الغرب يتنافس أنصار اليمين على تمجيده، وبات رمزاً لـ«الشعبويين» الذين كان لهم أبرز الفضل في الفوز المفاجئ لترامب في أميركا ويستعدّون لتغيير أنماط الحكم في بلدان أوروبية عدة. والآن يتطلّع بوتين إلى تعاون وتوافق مع ترامب ليتابع صقل زعامته في الشرق الأوسط، وليساومه على أوروبا وحلف الناتو» وأوكرانيا والعقوبات مقابل أن يضبط إيران ويسانده في مواجهة الصين. لا بد أن توافق الرجلين سيؤسس لنظام دولي جديد تتخلّى فيه أميركا عن قيم والتزامات كثيرة كانت عناوين سياساتها لعقود طويلة، وليس مؤكّداً أن روسيا ستكون قادرة على الحلول محلّها بطريقة مختلفة عما شهده العالم في حلب.