سينقضي، بعد ثلاثة أيام، عامٌ آخر سِِمته الإرهاب والحرب عليه، وسيسلم لخلفه ملفات مفتوحة، فالجماعات المسلحة الدينية بالذات تكاثرت، والطائفية في توحشها. انقضى عام من المجازر والنزاعات المذهبية، وفي زحمة تلك الرايات وتفوقها بلفت أنظار الإعلام، والتواصل الاجتماعي، أمست مصطلحات ومفاهيم مثل «التنوير» و«التسامح» مِن حواشي الكلام، مع أن الجادين بها ليسوا بالفئة القليلة، تجدهم داخل أفغانستان وتحت النيران بالموصل والرِّقة. أذكر تلك الأماكن لخطورة مفردة «التنوير» أو «التسامح» فيها، تحت هيمنة التوحش، وحيث التخادم بين الإرهاب والطائفية. فرز الباحث العراقي عبد الإله الصائغ، في دراسة أكاديمية صارمة التّوثيق، نشرتها وزارة الإعلام والثقافة العراقية عام 1986ببغداد، خمسة مواقف تجاه الزمن والتحايل عليه، تُقابل بين شعورنا- حسب طبيعة أحوال عيشنا- وتحديد نظرتنا للماضي والحاضر والمستقبل. والمواقف هي: الهرب من الحاضر نحو الغد، الهرب من الغد نحو الحاضر، الهرب من الحاضر نحو الماضي، الهرب من جريان الزمن نحو الثبات، الهرب من أهل الزمان ورموزه نحو المغامرة.(الزمن عند الشعراء العرب قبل الإسلام). يهمنا من هذا الهروب ضربان: الهروب من الحاضر إلى الماضي، وهذا الأمر غدا ثقافة سائدة، وعلى وجه الخصوص لدى الشعوب التي أتعبتها الثورات والأيديولوجيات، وأرهقتها إشاعة التدين خارج منطق الدين نفسه، نسبة بما كانت عليه من مدنية وحضارة، فترى الكتابات والصور مملوءة بتفاصيل ذلك الماضي، مثل الحنين إلى عهود الملكيات بمصر والعراق وأفغانستان وإيران وعهد بورقيبة بتونس مثلاً، صور المدارس والشوارع والدوائر والفنون وحياة الناس العامة، تبدو نوراً على نور، قياساً بالحال الراهن كأنه ظلام على ظلام. أصحاب هذه الثقافة بين باكين على تلك العهود، أو ساعين إلى إعادتها، والماضي بطبيعة الحال لا يعود. كان وراء ذلك «مرارة الشُّعور بالخيبة، فيئسوا من الحاضر، وارتابوا في جدوى تأميل المستقبل، فإذا كان حاضرهم حالكاً في أذهانهم، فإن قادم أيامهم سيكون أكثر حلكةً، فالخوف من الحاضر حصيلة موضوعية للشعور بالإحباط والغربة بين أبناء الزمان، فيلوذون بماضيهم كما تلوذ الفطيمة بمرضعتها، فيحلمون بعودة الماضي، الذي لن يعود، ويمضون في ذِكره ليطمئنوا رغبات النفس فيه، فيسألون أنفسهم، وربما أطلال حياتهم الماضية، وهم يمنون أنفسهم بعودة المستحيل، من خلال تكرار الأسئلة التي يطرحونها على الأطلال، ودهشتهم الحزينة لأن الأطلال لا تُجيب» (الزمن...). أقول: ابحثوا في «غوغل»، أو تصفحوا الصحافة العراقية اليوم («المدى» كنموذج وركنها «أيام زمان»)، أو تابعوا مقالات الأديب العراقي خالد القشطيني «أيام الخير»، كم ستجدون من صور شارع الرشيد في أيام خلت؟ أو انظروا في ما يُنشر عن مدينة جدة، في حياة الستينيات والسبعينيات مثلاً، أو تابعوا حياة القاهرة عبر الأفلام السينمائية، في تلك العقود؟ وانظروا ماذا فعلت «الصحوات الدينية» في حاضر المدن! لقد تغيرت المعالم، ويكاد التمدن ينسحب من بغداد. أما الضرب الثاني، «الهروب من الحاضر نحو الغد»، وهذا ما بنيتُ عليه الأمل في أن يكون 2017 ليس كسلفه، إنما عام البدء بإعلان التنوير والتسامح، وهما مفردتان متلازمتان ومتزامنتان، فالمتنور لا يتعصب لمذهب على آخر ولا لدين على آخر، وهما مرتبطتان بالدولة المدنية، وخصمان للقوى الدينية السياسية، لأنها مبنية على المحور الديني وفي داخله المحور المذهبي، والدين والمذهب لدى هذه القوى يقول: «السياسة عبادة»! وكيف يعيش المواطنون إذا كانت دولتهم ينجس بعضها بعضاً بالطَّعام، وتنظر لغير دينها ومذهبها كمجرد مشروع هداية؟! لا تستغربوا أن نتمنى في العام الميلادي، فهو لم يعد خاصاً بنحلة دينية، وجذوره موجودة بأفراح سومر وبابل والحضارات القديمة، وعُرف في الأدب العربي بـ«ليلة الميلاد» (الثَّعالبي، ثمرات القلوب في المضاف والمنسوب»)، و«كانون الأول أو الثَّاني»، حسب التسمية المشرقية لـ«ديسمبر ويناير» ومعناه السرياني «الشتاء» (بطي، تقويم العراق لسنة 1923). قال فيها أبو نُواس (ت 198ه): «يا ليلة الميلاد هل عَرفْتِ/أسَهرُ مني عاشقاً مُذ كنتِ/ألم أصابركِ فما صَبْرت/حتى بدت غُرة يوم السبتِ» (ثمرات..). يُضرب بتلك الليلة المثل بالطول، لأنها لبة الشَّتاء. ولأبي نواس أيضاً: «ليلة كاد يلتقي طرفاها/ قصراً وهي ليلة الميلادِ» (الزَّمخشري، ربيع الأبرار). كان في التراث الإسلامي مجالاً للتعبير عما ألفته الأديان، والتعبير عنها لا يقتصر على أبي نُواس، بل شعراء وأدباء كثيرون عبروا عنها، فأين من أغضبته شجرة الميلاد في يومنا هذا منهم؟! لنتكئ على ماضٍ ثري بالشفافية إلى عام جديد، نأمل أن يكون بداية إعادة تأسيس للتنوير والتسامح.