وقف معظم أعضاء مجتمع السياسة الخارجية في واشنطن مذعورين، يوم الثلاثاء الماضي، وهم يرون كبار مسؤولي تركيا، حليفة بلادهم في «الناتو»، وهو يجلسون مع قادة روسيا وإيران في موسكو، لتوصل إلى طريق جديد للمضي قدماً نحو إنهاء الأزمة السورية، وذلك من دون أن يكون هناك ممثلون عن أميركا حاضرين في قاعة الاجتماع. لم يكن المشهد عبارة عن نقطة تحول في الأزمة السورية في حسب، وإنما مثّل أيضاً عرضاً مذهلاً لتوجه تركيا الجديد، لتغيير اتجاه حركتها، بشأن سوريا نحو روسيا، وبعيدا عن حلفائها التقليديين في أميركا والغرب. وفي الواقع، هناك العديد من الأسباب التي دفعت حكومة أردوغان، للتحرك بشكل حثيث نحو الاصطفاف مع موسكو، في مجال السياسة الخارجية، بالذات، والابتعاد عن واشنطن. من ضمن هذه الأسباب أن حزب أردوغان، قد جاء إلى السلطة في الأساس على أجندة مناوئة للغرب، وأن الرئيس التركي يواجه في الوقت الراهن، ضغوطاً للوقوف في وجه أميركا، وعدم الانسياق وراءها، وأن محاولة الانقلاب التي وقعت مؤخراً على نظامه، قد أضعفت موقفه بشكل عام. بالإضافة إلى كل هذه الأسباب، لا يوجد ثمة شك في أن سياسات أوباما الفاشلة في الشرق الأوسط، وخصوصا فيما يتعلق بالتعامل مع الأزمة السورية، قد حفزت كل هذه التوجهات، وهيئت المسرح للتطورات الأخيرة. وفي هذا السياق، أشار مجلس تحرير صحيفة «الواشنطن بوست» يوم الثلاثاء الماضي، أن حادث اغتيال السفير الروسي لدى أنقرة، الذي كان قد وقع في اليوم السابق (الاثنين)، قد سرّع من وتيرة تدفئة العلاقات التركية الروسية، بدلاً من أن يؤدي لدق إسفين بين الدولتين، كما كان القاتل ينتوي، على ما يبدو. ولكن التحالف العلني بين الدولتين يمثل، بالكاد، مفاجأة لمن يراقبون السياسة الخارجية التركية عن قرب. الأفعال وليس الأقوال من هؤلاء المراقبين «ايكان إيرديمير»، العضو السابق في البرلمان التركي، والذي يعمل الآن مع «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية» الذي قال:«إن انجراف تركيا بعيدا عن تحالف عبر الأطلسي، والتحرك تجاه روسيا وإيران، أمر يحدث في الحقيقة منذ مدة طويلة، وليس وليد اليوم» وأضاف إيرديمير: «بالنسبة لأردوغان، باتت الولايات المتحدة غير ذات أهمية، لأن الشيء الذي يهم فيما يتعلق بالشرق الأوسط، هو الافعال لا الأقوال. ومن وجهة نظري أن واشنطن كانت تتكلم طيلة الفترة الماضية أكثر مما تفعل». ويشار في هذا السياق أيضاً، إلى أن اجتماع موسكو قد عقد عقب انهيار آخر جهد دبلوماسي قام به كل من وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف. ومن المعروف أن هذا الجهد، كان يتركز منذ شهر يناير الماضي على أمر واحد، هو مواصلة التفاوض من أجل التوصل لسلسلة من اتفاقات وقف إطلاق النيران، في سوريا بشكل عام، وفي الفترة الأخيرة في حلب، بشكل خاص. وقد أشار لافروف لهذا العملية الفاشلة يوم الثلاثاء الماضي، عندما أعلن أن الصيغة الجديدة التي ستقودها روسيا، ستكون هي محور الارتكاز لاستمرار المفاوضات بشأن سوريا. وقال لافروف «إن ما حدث هو تقرير للحقيقة، في الواقع. فالترويكا الثلاثية المكونة من روسيا وإيران وتركيا، قد أظهرت كيف يمكن للأمور أن تكون أكثر فاعلية من خلال اتخاذ إجراءات عملية». وأضاف وزير الخارجية الروسي، أن الصيغة القديمة التي كانت تقودها الولايات المتحدة، والمعروفة، بـ«المجموعة الدولية لدعم سوريا» قد فشلت في تحقيق أي من المبادرات المتوخاة. ووجه الوزير الروسي اللوم للولايات المتحدة على فشل هذه الصيغة، وفشل اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان قد توصل إليه مع كيري في سبتمبر الماضي. وكان الجالس بجوار لافروف أثناء إدلائه بهذه التصريحات، هو وزير الخارجية التركي «مولود جاويش أوغلو» الذي لم يجد أمامه سوى المصادقة على تحليل لافروف. تغير بشار ليس أولوية وقال لافروف ايضا: «نعتقد أن أفضل صيغة هي تلك التي يتم من خلالها اتخاذ القرارات ثم تنفيذها». وأضاف:«من سوء الحظ أنه لم يتم تنفيذ أي قرار من القرارات المتخذة فعلياً، على الرغم من حقيقة أن الموقف آخذ في التفاقم». بعد ذلك، أعلن لافروف أن هناك في الوقت الراهن، إجماعاً على أن تغيير النظام في سوريا لا يمثل أولوية، ثم قرأ إعلانا مشتركاً، تم التوصل إليه من قبل وزراء خارجية الدول الثلاث، تم فيه التأكيد على الالتزام بسيادة سوريا، وتكامل أراضيها، والمعارضة للإرهاب، والالتزام بإقامة بنية سياسية سورية قائماً على العلمانية والتعددية. ولم يتضمن الإعلان المشترك أي إشارة لمصير الديكتاتور السوري بشار الأسد. وقال «أرديمير» في معرض تعليقه على هذا الإعلان:«إن إعلان الأمس صادم للغاية، فهو مناقض تماما لما كانت تركيا تدعو إليه في سوريا منذ عام 2011» وأضاف:«إن هذا يعني، من حيث الجوهر، أن تركيا سوف تقبل باستمرار الأسد». لسنوات حاولت تركيا العمل مع إدارة أوباما بشأن سوريا، ولكن محاولاتها رفضت بجفاء من الجانب الأميركي المرة تلو الأخرى. وبالإضافة إلى التوترات الثنائية الأخرى بين الدولتين، رأت تركيا أن دعم الولايات المتحدة للمجموعة المسلحة التي يطلق عليها «القوات السورية الديمقراطية»، والتي تتكون في معظمها من مقاتلين أكراد، كان يعني مساندة الجماعات المسلحة التي تقف في صف واحد مع الإرهابيين الأكراد في أراضيها. تنسيق تركي- روسي ويشار هنا إلى أن المكاسب التي حققها الأكراد على الأرض في شمال سوريا، قد دفعت تركيا للتدخل عسكريا للحيلولة بينهم وبين الوصل بين منطقتهم ومنطقة تركز الأكراد في تركيا، وإقامة دولة كردية بحكم الأمر الواقع. كجزء من هذا التدخل، سعت تركيا إلى الحصول على موافقة ضمنية من روسيا، ووافقت في اكتوبر الماضي، كما جاء في التقارير الصحفية المختلفة، على إخماد المعارضة للأعمال الروسية في حلب. وهذا الاتفاق مهد الأرضية لمزيد من التعاون بين تركيا وروسيا. وفي غيبة أي مبادرة من قبل إدارة أوباما المغادرة، قررت تركيا فيما بعد نقل تعاونها مع روسيا إلى مستوى أعلى. «لقد نظر الأتراك إلى الوضع وقالوا لأنفسهم « هذه الإدارة لا تريد ان تتعامل مع سوريا، ولذلك سننتظر حتى تتولى الإدارة التالية مسؤوليتها، وفي نفس الوقت دعونا نرى ما يمكن عمله مع الروس» هذا ما قاله «اندرو تابلر»، الزميل الرفيع المستوى في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الذي أضاف لما سبق قوله: «الجميع ينظرون إلى إدارة أوباما على أنها إدارة عاجزة تماما، وها نحن نرى أنفسنا وقد أصبحنا خارج الغرفة». اتفاقيات في غياب واشنطن الخطوة التالية، وفقاً لموسكو، هي أن تجتمع الحكومة السورية، وبعض أعضاء المعارضة الموافق عليهم، في كازاخستان، للتفاوض على المزيد من اتفاقيات وقف إطلاق النار، علما بأن الولايات المتحدة ليست مدعوة ً للمشاركة في هذه العملية، أيضاً. وقال «جون كيربي» المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية، يوم الثلاثاء الماضي، إن كيري ليس لديه مشكلة في أن يتقرر مصير سوريا من دون مشاركة الولايات المتحدة، ووفقاً لشروط جرى إملاء معظمها من قبل روسيا وإيران. وقال المتحدث: «الوزير لا يرى في ذلك ازدراءً.. فإذا كان عدم وجودنا في الغرفة، يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف، إلى إيقاف الأعمال العدائية، التي يمكن أن تهم في الحقيقة، على مدى فترة زمنية معينة، وعلى امتداد مساحة جغرافية أكبر مما رأينا في الماضي، ويمكن أيضاً أن يساعد على توصيل المساعدات الإنسانية إلى الناس المحاصرين، ويساعد على استئناف المحادثات السياسية، فإن الوزير لا يرى أي غضاضة من أي نوع في ألا يكون جالساً في الغرفة، إذا ما كان كل ذلك سيتحقق في حالة عدم وجوده». المشكلة هنا تكمن في أن العملية الجديدة التي تقودها روسيا في سوريا، ليس أمامها سوى فرصة ضئيلة لتحقيق سلام أوسع نطاقا، أو تقديم تسوية سياسية حقيقية. فتركيا قد توافق على إيقاف دعمها لعدة جماعات من الجماعات المعارضة، التي تحارب جيش الأسد، ويسمح للحكومة السورية بإحكام سيطرتها على حلب وغيرها من المناطق التي غزتها. ولكن الجيش السوري المنهك، قد لا يكون قادرا فيما بعد على مد سيطرته على الأراضي، أكثر من ذلك. حوافز أميركية غائبة الأمر المرجح، هو أن روسيا التي تعتبر جميع جماعات المعارضة غير الموافق عليها جماعات إرهابية، ستواصل هجماتها العسكرية على المناطق التي يحتلها المتمردون، وربما تنتقل في المرحلة المقبلة إلى إدلب. ومهما كان مضمون الاتفاق السياسي الذي ستوقع عليها جماعات المعارضة الموافق عليها في كازاخستان، إلا أنه لن يكون ممكنا تنفيذه أبداً على الأرض. في الآن ذاته، تبدو إدارة أوباما المغادرة، وكأنها لا تمتلك خطة لإعادة تأكيد نفوذها في المنطقة، ولا لتزويد تركيا بأي حافز يدفعها لعكس توجهاتها التي مالت نحو موسكو، وابتعدت عن الغرب. وإدارة دونالد ترامب القادمة، قد تقرر قبول العملية الدبلوماسية التي تقودها روسيا في سوريا، كأمر واقع. ولكن يجب على هذه الإدارة عدم قبول تفكيك علاقات تركيا مع الغرب كجزء من تلك الصفقة. فمن خلال زيادة التزاماتها في المنطقة، وإعادة ضبط علاقاتها مع تركيا، يمكن عكس اتجاه موقف تركيا الرامي لتمتين علاقاتها مع روسيا، والابتعاد عن حلفائها الغربيين. وعملية إعادة ضبط مسار العلاقات هذه، يجب أن تشتمل على مناقشة صريحة لاستخدام اردوغان للولايات المتحدة ككبش فداء للانقلاب الذي وقع ضد نظامه، والمشكلات الداخلية التي تعاني منها بلاده. كما يجب أن يشتمل ذلك أيضاً على دعوته لإعادة الالتزام مجددا بقيم حقوق الإنسان، وحكم القانون. في المدى الطويل، سيكون حال تركيا مع الولايات المتحدة والناتو أفضل بكثير من حالها مع روسيا وإيران. ولكن تركيا لن تقبل هذه الحقيقة إلا في حالة واحدة فقط، وهي أن تسترد الولايات المتحدة مصداقيتها في المنطقة. *كاتب أميركي متخصص في شؤون السياسة الخارجية والأمن القومي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس» ـ ـ ـ تركيا قد توافق على إيقاف دعمها لعدة جماعات من الجماعات المعارضة، التي تحارب جيش الأسد، ما يسمح للحكومة السورية بإحكام سيطرتها على حلب وغيرها في المدى الطويل، سيكون حال تركيا مع الولايات المتحدة و«الناتو» أفضل من حالها مع روسيا وإيران. ولكن تركيا لن تقبل هذا إلا إذا استردت واشنطن مصداقيتها في المنطقة مكاسب الأكراد على الأرض في شمال سوريا دفعت تركيا للتدخل عسكريا لمنع تواصلهم مع منطقة تركز الأكراد في تركيا، وإقامة دولة كردية بحكم الأمر الواقع حزب أردوغان جاء إلى السلطة بأجندة مناوئة للغرب، وأن الرئيس التركي يواجه في الوقت الراهن، ضغوطاً للوقوف في وجه أميركا «إحباط» منطقة حظر الطيران المحاولات المتكررة، من جانب المسؤولين الأميركيين، للتوصل إلى اتفاق مع تركيا لشن حرب مشتركة ضد «داعش»، وتنسيق الجهود معها من أجل دعم المعارضة السورية، لم يكتب لها النجاح هي الأخرى، وهو ما يرجع في المقام الأول، لعزوف البيت الأبيض في عهد أوباما، عن إلزام نفسه بالدعوة التركية لإقامة منطقة حظر طيران في شمال سوريا، لتشكيل المزيد من الضغط على نظام الأسد. أنقرة ترى أن دعم واشنطن للمجموعة المسلحة التي يطلق عليها «القوات السورية الديمقراطية»، والتي تتكون في معظمها من مقاتلين أكراد، كان يعني مساندة الجماعات الداعمة لإرهابيين أكراد في أراضيها جوش روجين*