تأتي أمراض القلب والشرايين، وخصوصاً الذبحة الصدرية والسكتة الدماغية، على رأس قائمة أسباب الوفيات بين أفراد الجنس البشري -دون منازع- حيث تتسبب في وفاة قرابة 14 مليون نسمة سنوياً، متفوقة بذلك على مجمل الوفيات الناجمة عن جميع أنواع السرطان. وأمام هذا الواقع الطبي المؤسف، يسعى الأطباء للتعامل مع هذه الطائفة من الأمراض من خلال عدة جبهات. مثل تفعيل تدابير وإجراءات الوقاية الهادفة لخفض وقع عوامل الخطر المعروفة، وتطوير وتحسين السبل العلاجية لمن أصيبوا بالمرض فعلاً. كما تشكل الجهود الرامية للتشخيص المبكر للإصابة بأمراض القلب، من خلال فحوصات وتحاليل متخصصة، أحد التدابير الواعدة في خفض الوفيات الناتجة عنها. ففي عالم الطب بوجه عام، تؤدي الفحوصات الطبية والتحاليل المعملية وظيفتين رئيسيتين: الأولى تهدف إلى تشخيص الإصابة بمرض ما بعد ظهور الأعراض والعلامات، أو متابعة نتائج وفعالية العلاج، أما الثانية، فتهدف إلى تحديد الأشخاص الأصحاء المعرضين للإصابة بمرض ما، قبل أن تظهر عليهم أعراض وعلامات المرض، وهي الفحوصات والتحاليل المعروفة بالفحوصات المسحية (Screening Tests). وتدور فكرة واستراتيجية الفحوصات المسحية حول ما يعرف بعوامل الخطر، والتي هي عبارة عن مجموعة من العوامل الوراثية، والبيئية، والسلوكية، التي تؤدي إلى زيادة احتمالات الإصابة بمرض ما. ومن أهم وأشهر عوامل الخطر المعروفة: التدخين، ومستوى الكوليسترول في الدم، وارتفاع ضغط الدم، والوزن الزائد والسمنة، وشرب الكحوليات. وغالباً ما يمكن تغيير الوقع والأثر النهائي لعوامل الخطر، من خلال تغيرات سلوكية مثل التوقف عن التدخين، أو الحفاظ على وزن مثالي، إلا أن بعض عوامل الخطر، مثل التاريخ العائلي، والعمر، لا يمكن تغييرها. ورغم الفهم والإدراك العميقين لعوامل الخطر المرتبطة بأمراض القلب والشرايين، فإن الطب الحديث لم يحقق اختراقات مهمة على صعيد الفحوصات المسحية لهذه الطائفة من الأمراض. فعلى سبيل المثال، لا توجد فائدة تشخيصية تذكر من رسم القلب الكهربائي، سواء وقت الراحة أو تحت المجهود، في الأشخاص الذين لا تظهر عليهم أي أعراض لمرض القلب ولا يوجد في حياتهم عوامل خطر واضحة، وحتى في الأشخاص المعرضين لعوامل خطر ظاهرة، لم تظهر الدراسات فائدة تذكر من رسم القلب الكهربائي لهم أيضاً. وإذا أخذنا في الاعتبار أن عدداً من الفحوصات المتخصصة، مثل تخطيط صدى القلب، والتصوير الإشعاعي الذي يظهر مدى وفعالية إشباع أو تروية عضلة القلب بالدم (Myocardial Perfusion Imaging)، لا يوصى بها هي الأخرى في الأشخاص غير المعرضين لعوامل الخطر، ولا يوجد لديهم أعراض ظاهرة، سنكتشف أنه لا توجد وسائل أو سبل كثيرة للتنبؤ والتشخيص المبكر لأمراض القلب. وهذا الواقع الحالي، يسعى مجموعة من العلماء في جامعتي «جلاسجو» و«إدنبره» الاسكتلنديتين إلى تغييره، من خلال فحص دم بسيط وغير مكلف، يمكنه التنبؤ بين الأصحاء، أيهم معرض لخطر أكبر للإصابة بمرض القلب، وبشكل أدق من الأسلوب الحالي المتبع والمعتمد فقط على فحص ضغط الدم ومستوى الكوليستيرول. ويعتمد الاختبار الجديد على الكشف عن مستوى بروتين خاص «تروبونين» (Troponin)، وهو فحص يستخدمه الأطباء حالياً بالفعل لتشخيص الإصابة الحديثة بالذبحة الصدرية، حيث ترتفع مستويات هذا البروتين في الدم عند تعرض جزء من عضلة القلب للتلف. والجديد في الموضوع، أن علماء الجامعتين الاسكتلنديتين، خلصوا من خلال دراستهم التي شملت 3300 رجل، إلى أن ارتفاع مستوى هذا البروتين في الدم، حتى في الأشخاص الأصحاء الذين لا تظهر عليهم أعراض أو علامات مرض القلب، ترافق أيضاً بمعدلات أعلى من الإصابة لاحقاً بالذبحة الصدرية أو الوفاة المبكرة. وهو ما يعني أنه في حالة تشخيص ارتفاع مستوى التروبونين، وحتى في ظل عدم وجود أعراض أو علامات أخرى، فلا بد من اتخاذ إجراءات أكثر نفاذية لخفض مستوى الخطر الذي يعيش في ظله الشخص، مثل وصف أحد أفراد طائفة عقاقير «الستاتين» المخفضة للكوليستيرول، والتي تعمل أيضاً على تخفيض مستوى التروبونين. وإن كان من الخطأ الاعتماد على الحل الدوائي فقط، لخفض احتمالات الإصابة بأمراض القلب والشرايين، ولتجنب التعرض للوفاة المبكرة، وفي نفس الوقت تجاهل التدابير والإجراءات الأخرى التي تحمل في طياتها وقع أكبر. ومن أهم هذه التدابير: الامتناع عن التدخين بجميع أشكاله، وعن شرب الكحوليات، والحفاظ على وزن مناسب من خلال الاعتماد على غذاء صحي متوازن، وممارسة الرياضة والنشاط البدني بشكل روتيني، وخفض التوتر في الحياة اليومية، وخصوصاً المزمن منه.