ستصبح تونس عما قريب، واحدة من أكبر الدول المتلقية للمساعدات الخارجية في العالم. لكن هذا التدفق للأموال الأجنبية، يمكن أن يغطي على المطالبة بإجراء الإصلاحات الهيكلية الضرورية، للحفاظ على الديموقراطية الوليدة في البلاد، وحمايتها من التعرض لمزيد من الاضطراب السياسي. والمساعدات الأجنبية لتونس لن تؤدي سوى لتضخم التوقعات السياسية للتحالف الحاكم، دون أن تلزمه بإصلاح حقيقي. وعملية تلقي تونس لمقادير ضخمة من المساعدة الأجنبية، وقد وضعتها في المركز الثالث بين الدول الأكثر تلقياً للمساعدات الأجنبية في عام 2013، تسارعت وتيرتها خلال العامين المنصرمين، فالمساعدة من حكومة الولايات المتحدة بمفردها تضاعفت بين عامي 2014 و2015، رغم الصعوبات التي تواجهها الموازنة الأميركية، كما وافق البرلمان الأوروبي، من جهته، على مضاعفة المساعدة المقدمة لتونس لتصل 400 مليون يورو سنوياً، بل دعا إلى «خطة مارشال» لدعم الديموقراطية التونسية. وفي أواخر الشهر الماضي، حث مؤتمر «تونس 2020» على تقديم المزيد من التعهدات لتزويد تونس بمساعدات وقروض من الدول الأجنبية تصل 14 مليار دولار. وأزمة تونس الاقتصادية لا ترجع إلى نقص الأموال فحسب، وإنما هي مشكلة سياسية أساساً، تتطلب حلاً سياسياً في المقام الأول. وبعض المساعدات، خصوصاً تلك الموجهة لدعم المجتمع المدني الذي يزداد قوة وثقة بالنفس باستمرار، كان لها تأثير مفيد على تحسين مستوى شفافية الحكومة، وزيادة درجة الوعي الاجتماعي السياسي. والمساعدات الأجنبية ما لم تبرمج بعناية، لتحقيق منفعة الجمهور العريض، بدلاً من إضفاء الشرعية على التحالف الحاكم، سيكون مصيرها الإخفاق، لأنها في هذه الحالة ستؤدي إلى «تعزيز» المؤسسات السياسية القائمة وتقويتها، وجعلها أكثر مقاومة للتغيير. وحالياً، تتكشف اتجاهات في تونس من النوع المفضي إلى نتائج عكس المرجوة منه أساساً، خصوصاً في مجال الفساد، اتجاهات تقوض النوايا من تقديم المساعدات، فالمحسوبية ومحاباة العائلات المنتمية لطبقة النخبة القوية، تعتبر داءً مستوطناً، ومشكلة مستعصية في تونس منذ أيام الرئيس السابق «بن علي». والمدى الذي وصل إليه هذا الفساد كشف عنه تقرير لاذع صادر من البنك الدولي عام 2014، جاء فيه: «إن عملية الدخول للسوق المنظمة بشكل صارم، خلقت فرصاً للاستفادة بإيجارات باهظة من قبل محاسيب النظام، المتمتعين بفرص متميزة لدخول بعض الأنشطة الاقتصادية المغرية التي لا تتاح لغيرهم عادة». وقد أجريت من جانبي بحثاً ميدانياً في تونس، العام الماضي، تبين لي من خلاله أن التكتلات الاقتصادية القوية، هي التي تتحكم في فرص الوصول إلى العقود المغرية الخاصة بتوريد الاحتياجات إلى المشروعات المملوكة من قبل الدولة، وهو ما حرم المشروعات الأصغر حجماً من فرص المنافسة. وإذا ما أخذنا في اعتبارنا أن أكبر الشركات في تونس مملوكة للدولة، فسنجد أن هذا التحيز يمثل مشكلة خطيرة. كانت لدى المشرعين التونسيين فرصاً عديدة لاقتراح إصلاحات في السياسة المتعلقة بمحاربة الفساد، لكن لم يتم سوى تحقيق تقدم محدود في هذا المجال. وقد أظهر حزب «نداء تونس»، منذ أن تولى مسؤولية الحكم عام 2014، عدم فعالية ملحوظة في تنفيذ الإصلاحات الرامية لزيادة النمو الاقتصادي عن طريق فتح الأسواق أمام المنافسة والاستثمار، فهو مثلاً لم يتخذ التدابير اللازمة لزيادة الشفافية ومقاومة الفساد، وعمد بدلاً من ذلك إلى الدعوة إلى قانون «مصالحة اقتصادية» مثير للجدل ينص على منح عفو عام لجميع أعضاء صفوة مجتمع المال والأعمال الذين انخرطوا سابقاً في صفقات مريبة مع نظام بن علي. هذا النقص في الشفافية، يمكن أن يقوض نزاهة النظام الانتخابي الديموقراطي الجديد، والمقابلات التي أجريتها مؤخراً مع مسؤولين من الحكومة التونسية والحزب الحاكم، توضح أن نظام تمويل الانتخابات مختل من حيث الجوهر. فالمراقبون لم يكونوا قادرين على تحديد مقدار الأموال التي أنفقت في الدورة الانتخابية السابقة، حيث لم يقدم سوى حزب واحد، هو حزب «أفق تونس»، بيانات عن مصادر تمويله، وهذا النقص في البيانات، مثير للقلق، خصوصاً بعد انتخابات 2014 التي شهدت تدفقات كبيرة من الأموال الانتخابية، واتهامات بوجود تمويلات أجنبية وفساد بين الأحزاب الرئيسة. إن الدعم غير المحدود للحكومة الحالية من قبل الدول الأجنبية المانحة للمساعدات، والذي لا يشترط الربط بين الاستمرار في تقديم المساعدات، وبين اتخاذ تدابير ضد الفساد وأخرى رامية لزيادة الشفافية من جانب الحكومة التونسية، سيقوض المعارضة السياسية من جهة، ويوصل من جهة أخرى رسالة للجمهور التونسي مؤداها أن الوضع الراهن قد خلق كي يبقى. لتحقيق الاستقرار لهذه الديموقراطية الوليدة، يتعين على النخبة السياسية التونسية الانخراط في عملية تغيير هيكلي عميقة، لتفكيك شباك رأسمالية المحاسيب التي تعرقل النمو الاقتصادي. وفي غيبة مثل هذا النوع من السياسات، فإن المستقبل الديموقراطي التونسي سيظل محاطاً بالشكوك. روبرت كيوباينيك: باحث في علم السياسة المقارن بجامعة فيرجينيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»