بينما كان الكوريون الجنوبيون ينتفضون مطالبين باستقالة رئيستهم «بارك جيون هي» بسبب مزاعم حول تورطها في قضايا فساد بطريقة غير مباشرة، كان الملايين من سكان ولاية «تاميل نادو» في أقصى جنوب الهند يملؤون الساحات نواحاً ونحيباً على وفاة رئيسة حكومتهم المحلية «جايالاليتا جايارام» صاحبة السجل الحافل بشتى أنواع الأعمال المنفرة، ابتداء من ماضيها السينمائي الفاضح وعلاقاتها الغرامية مع رئيس حكومة الولاية الراحل «راما شاندران» الذي كان سبباً مباشراً في صعودها السياسي، وانتهاء بأسلوبها الديكتاتوري الفج وطغيانها وتورطها في قضايا عديدة ذات علاقة بالفساد والاختلاس واستغلال النفوذ وشراء الذمم. نعم، لفظت «جايالاليتا» أنفاسها في الخامس من ديسمبر من بعد صراع مع المرض. لكنها قبل رحيلها الأبدي كانت قد حفرت اسمها في تاريخ بلادها كنجمة سينمائية (مثلت 140 فيلماً من الأفلام الناطقة بلغات ولايات الهند الجنوبية ما بين عامي 1961 و1980)، وكسياسية ذات نفوذ طاغٍ في «تاميل نادو» (تولت رئاسة حكومة الولاية 14 سنة ما بين عامي 1991 و2016)، وأيضاً كشخصية مثيرة للجدل شغلت الرأي العام الهندي طويلاً من خلال قصصها الدرامية وديماغوجيتها وتناقضاتها وسطوتها وأنشطتها غير المشروعة، وغير ذلك مما تسبب في خسارتها للسلطة في انتخابات 1996 ودخولها المعتقل أكثر من مرة ومنعها من ممارسة حقوقها الانتخابية. وحكاية هذه السيدة تعكس مدى اختلاف الناس في فهمهم للفساد، ومدى تقبلهم للمتورطين فيه واستعدادهم للتعاون معهم. فمما لا شك فيه أن «جايالاليتا» استطاعت عبر الكثير من الخبث والدهاء وسحر الشخصية وتوظيف نجوميتها السينمائية وإرث عشيقها الراحل أن تشتري الولاء في أجهزة الحكم المحلي ابتداء من جهاز الشرطة وانتهاء بالجهاز القضائي، وأن تظهر على الساحة كقوة خارقة لا حدود لسطوتها، وكملكة غير متوجة على عرش ولاية تحتضن أكثر من 70 مليون نسمة وتملك 39 مقعداً في البرلمان الاتحادي وتمثل إحدى قلاع الصناعة السينمائية الهندية وتشتمل على أهم مراكز الاستشفاء المدعمة بآخر منجزات التقدم العلمي، إضافة إلى مواقع صناعة الصواريخ والأقمار الصناعية. فهي تصرفت أثناء وجودها في السلطة وكأنها ممثلة عبر تجسيد أدوار العظمة والتواضع، ورقة الأمومة وطغيان الديكتاتورية في آن، مما جعلها مثالاً للسياسي المتناقض. ولعل أفضل دليل على أنها كانت، من جهة، تنفق ما يساوي مليوني دولار سنوياً على نشر صورها وإقامة التماثيل لشخصها وإرغام المنتجين المحليين على وضع صورها على سلعهم من أجل الترويج، ومن جهة أخرى كانت تتواضع كلما طُلب منها الظهور في المهرجات والمؤتمرات الصحفية لتوحي للناس رغبتها في الابتعاد عن الأضواء. وعلى حين كانت تعمل بنشاط من أجل تطوير الخدمات الصحية والتعليمية ورعاية الفقراء والمحتاجين والمعاقين، كانت في الوقت نفسه لا تتردد في الإقدام على كل ما يندرج في خانة خرق حقوق الإنسان من سجن واضطهاد وتهديد وابتزاز للخصوم والمنافسين، ناهيك عن ممارسات غير مقبولة في بلد فقير مثل قيامها بإنفاق 30 مليون دولار على حفل زفاف أسطوري لولدها بالتبني في سنة 1995. وقد انعكس كل هذا في الألقاب الكثيرة التي ارتبط باسمها من تلك التي لا نجدها إلا في الأنظمة الشمولية التي تؤله زعماءها مثل: «رائدة التقدم» و«سيدة الرؤى السديدة» و«ربة العدالة الاجتماعية» و«آسرة القلوب» و«أم الشعب الحنونة». لكن هذه الألقاب الجميلة قابلها خصومها بألقاب انطوت على قدر كبير من الاستهجان والاستنكار مثل لقب «إميلدا ماركوس الهند» في إشارة بليغة إلى تساويها في الفساد والإفساد وأيضاً في الجذور العائلية وكيفية الصعود إلى القمة مع سيدة الفلبين الأولى سابقاً، ولقب «مدام 15 بالمئة» كناية عن تقاضيها نسبة 15 بالمئة من رجال الأعمال مقابل تمرير أعمالهم وتسهيل مشروعاتهم، ولقب «الشيطانة الساحرة» كناية عن براعتها في سحر الجماهير والضحك على ذقونهم. أما ردها على الأحزاب السياسية المناوئة لها من تلك التي جندت كل أسلحتها بهدف وضع حد لجبروتها وإخراجها من السلطة في الانتخابات الاتحادية والمحلية التي أجريت في عام 1996 فكان مطابقاً أيضاً لردود إيميلدا ماركوس إزاء محاولات الأحزاب الفلبينية كشف سيئاتها، إذ حرصت على الدوام على تأكيد نصاعة صفحتها، والقول بأن ما يثار ضدها مجرد دعايات مغرضة، وتهم باطلة مصدرها الساسة الذكور الذين لا يسعدهم أن تتوسع دائرة نفوذ وشعبية الإناث في هرم السلطة. وهكذا خسرت «جايالاليتا» مقعدها النيابي في الانتخابات المذكورة، بل لم يحصد حزبها سوى أربعة مقاعد من أصل 168 مقعداً في المجلس التشريعي لولاية «تاميل نادو». وقد عُدت هذه الهزيمة للسيدة، التي كانت قد وصلت في عام 1991 إلى السلطة المحلية وسط تأييد شعبي عارم واكتساح لمقاعد المجلس التشريعي، واحدة من أكثر الهزائم السياسية قسوة في تاريخ الانتخابات الهندية، بل عدت مثالاً واضحاً على ما يمكن أن تلحقه الجماهير بساستها من أذى إنْ لم يحسن هؤلاء أداءهم ويكونوا في مستوى تطلعاتها وآمالها. غير أن «جايالاليتا» تمكنت من تحقيق الانتصارات بعد ذلك في الانتخابات المتتالية لأن ذاكرة الجماهير ضعيفة من جهة، ولأن الجماهير الهندية أسيرة للعواطف من جهة أخرى. وقد أتقنت «جايالاليتا» اللعب على هذين العاملين، واستثمرت في ذلك قصة دخولها المعتقل، وما تعرضت له من مهانة وإذلال، خصوصاً أنها سبق لها أداء أدوار مشابهة في السينما التي هي آسرة قلوب الهنود بمختلف طبقاتهم.