مآسي الثورة السورية المدمرة لا حصر لها، ولعل أكثر ما يثير الأسى في مسارها أن «الحرب العالمية» ضد الإرهاب صارت ضدها، بعد أن تكالبت المنظمات الإسلامية المتشددة عليها وتزاحمت الجماعات الإرهابية على أرضها، ونجحت بامتياز في تشويه صورتها وأهدافها. ففي ستة الأشهر الأولى من عمر الثورة، يقول الكاتب حسين شبكشي: كان العالم مدركاً لمطالب السوريين، قبل اختراق هذا الحراك الإنساني الراقي والسلمي، «ولكن قوى التطرف والإرهاب المتمثلة في «داعش» و«حزب الله» قدمت أعظم خدمة لنظام بشار الأسد وشيطنت الصراع إلى إرهاب ضد إرهاب وبنته على طائفية وخلل عقائدي، وغير ذلك من مفردات التطرف والدم، وكانت النتيجة أنه تم «تغيير الموضوع» من مساندة ثورة السوريين الأحرار للخلاص مما أصابهم من كرب وضغينة وظلم إلى مسألة أخرى مختلفة تماماً وهي الحرب على الإرهاب». ولم يتحول هذا التغير إلى رصيد النظام فحسب، بل صار الكثير من أنصار الثورة ممن أشعلوها أو وقفوا معها في منطلقها، يتمنون إنهاءها بأي شكل من المصالحة، بعد أن أصبحت سوريا ساحة مرعبة للدمار والقصف وتصارع الجماعات الإرهابية وغير ذلك. تقدمت الجماعات المتشددة والإرهابية صفوف المعارضة والاقتتال مستفيدة من إمكانيات هذه التنظيمات المحلية والدولية ومن المخاوف المذهبية إزاء قسوة النظام و«العلوية السياسية» إن صح التعبير. غير أن هذه القوى لا تخدم عادة أهدافاً وطنية، وتحتقر كل الشعارات السياسية المرتبطة بهذه الأهداف، ولها قاموسها الخاص في تعريف الوطن والحرية والسلام وأي مصطلح آخر. وكما يقول المحلل «مشاري الذايدي» في نفس الصحيفة: «الجماعات الدينية المتطرفة المسلحة في صفوف المعارضة السورية، هي جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحل». ويرى الإعلامي البارز عبدالرحمن الراشد أن «الذين دعموا جبهة النصرة ساندوا النظام السوري وسهلوا على إيران وروسيا وميليشياتهم الوجود بحجة مقاتلة الإرهاب». أما «حمد الماجد» فيرى في النصر السوري الإيراني وسحق المقاومة في حلب «اكتمالاً للهلال الشيعي»، وتعبيراً عن وحدة كلمة النظام السوري وأنصاره، بعكس تشتت المعسكر العربي، ويصرخ في أشتات العرب المتشرذمة قائلاً على لسان النظام وحلفائه: «أيها العرب البائسون نجني اليوم في حلب ثمار تحالفاتنا المتماسكة التي تحقق غايات واضحة وأهدافاً مرسومة، تحالفنا أيها العرب المشتتون خليط من الاثني عشرية والنصيرية والأرثوذكسية والعرب والفرس والروس، وأنتم كلكم عرب وكلكم سنة وكلكم مستهدفون منا على المدى القريب والبعيد، وكلكم متنافرون، وحتى ثورتكم تشظت لعشرات الثورات وعشرات الفصائل وعشرات الأحزاب وعشرات الخطط، وعشرات الغايات يأكل بعضها بعضاً، ويلعن بعضها بعضاً، يخربون بيوتهم، هانوا لنا قتالاً جرى بين دولنا أو أحزابنا أو فصائلنا أو مذاهبنا أو أعراقنا مع اختلاف مصالحنا وغاياتنا، الروسي والإيراني والعراقي مع نظام بشار كالبنيان المرصوص، استراتيجيتنا ثابتة وتحالفنا متماسك وخلافاتنا مستورة». هل «الجبهة السورية الشيعية» بهذه الدرجة من التماسك والصلابة؟ أم أن جرائم الجماعات الإرهابية في البلدان العربية وسوريا والعالم كله نشرت الرعب والكراهية في كل مكان، وفتّت في عضد الثورة السورية في الكثير من «الأوساط السنية» داخل سوريا نفسها؟ هل العلاقة بين النظام السوري والروسي على ما يرام؟ إن ثقة الروس بالجيش السوري، يقول المتابعون ضعيفة جداً. حيث أكد أن معركة تدمر أثبتت «أن القدرة القتالية للقوات السورية، باستثناء بعض المجموعات، بالغة الضعف، وفي وسع هجوم (يتيم) تبديد قوات الحكومة السورية التي تركت بعد انسحابها ترسانة كاملة من الأسلحة، ولا شك في أن موسكو كانت أكثر المتألمين من سقوط تدمر، وخسارتها ضربة لروسيا تشوه صورتها، وإذا استأنف رجال «الخلافة» تفجير الآثار وإعدام السجناء على خلفية الأعمدة الأثرية، تلقت روسيا ضربة هائلة». ويضيف الكاتب الروسي «مكسيك يوسين» في «الحياة» بأن موسكو «قلقة من أن يسعى الصقور في دمشق وطهران، إثر تجرعهم جرعة كبيرة من الثقة نتيجة النجاح الأخير في حلب، إلى السيطرة على كامل سوريا». ويشكك الكاتب «كميل الطويل» في الفهم السائد لسياسة النظام بخصوص «التغيير الديموغرافي»، بمعنى تهجير السُّنة من أجل إسكان شيعة وعلويين مكانهم، ويضيف: «إن النظام لم يلجأ إلى تهجير المدن والبلدات السُّنية التي وافقت على عقد هدن محلية معه تضمنت إبعاد المسلحين المصرّين على قتاله. المدن والبلدات الوحيدة التي أخليت من سكانها كانت تلك التي قاتلت حتى الرمق الأخير ولم تقبل الاستسلام سوى بعد إخضاعها بالقوة، وهذا للأسف ما نراه اليوم في شرق حلب». ولكن هل هذه سياسة النظام دائماً؟ هذا ما يحتاج إلى مراقبة ومقارنة ودراسة. توقف الكاتب الفلسطيني «ماجد كيالي» يتأمل المأساة السورية في مقال بعنوان «أوهام ما قبل حلب وما بعدها»، وقال إن سقوط هذه المدينة، وهي العاصمة الثانية لسوريا، قد ولّد نظرتين متناقضتين للحدث الجلل: الأولى انطوت على طغيان مشاعر الإحباط ولوم الذات والعالم الخارجي، والثانية تضمنت مشاعر الإنكار والمكابرة. ويرى كيالي أن النظرتين مضرتين. فما حصل في حلب، يضيف: «دلالة على انهيار التصورات أو الأوهام التي تحكمت بمسيرة الثورة السورية». فما هي هذه الأوهام في رؤيته؟ أول هذه الأوهام «وهم العسكرة» بواقع تشرذم الفصائل المسلحة وتعدد مرجعياتها وتحكم الخلافات الضيقة فيها وانشغال كل فصيل بتنمية نفوذه على حساب غيره. وثاني هذه الأوهام يتعلق بالارتهان إلى الخارج، وبناء الاستراتيجية أو التكتيك على القوى الخارجية. ثالث هذه الأوهام يتعلق بانهيار المبنى الأيديولوجي للثورة، الذي تغطى بـ«الإسلام»، إن هذا النمط من الفصائل، القائم على الأيديولوجيا والعنف والسلطة، لم يضر بالثورة السورية فقط «وإنما هو أضر بمجتمع السوريين، وقوّض إجماعاتهم، وعمّق اختلافاتهم، وقلل ثقتهم ببعضهم، وأثار مخاوفهم من المستقبل، وهو ما أفاد النظام».