الأنباء التي ترد تباعاً من العراق تشير بشكل واضح إلى أن القوى التي تعمل على تحرير الموصل وتخليصها من يد (داعش) قد نجحت حتى الآن في الاسترداد شبه الكامل للمدينة من يد التنظيم الإرهابي. معركة الموصل الحالية تعد منعطفاً مهماً في التاريخ العراقي المعاصر، وهي ذات محاذير خطيرة على مسارات العراق نحو المستقبل المنظور، فهي إما أن توحد العراق من جديد وفقاً للخطوط السياسية التي رسمتها بريطانيا له في بداية القرن العشرين نتيجة لاتفاقية سايكس- بيكو الشهيرة بين بريطانيا وفرنسا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أو أن تمزق العراق وفقاً لخطوط جديدة يتم وفقاً لها تقاسمه بين الشيعة والسنة والأكراد، وتكوين كيانات سياسية فيه وفقاً لقواعد ومعطيات جديدة، لم يكن العراقيون أنفسهم يعتقدون بأنها ستحدث منذ أن دخلته الولايات المتحدة الأميركية غازية عام 2003. وينطلق طرحنا الأخير هذا من أن الأحداث التي مرت بالعراق منذ عام 2003 وحتى هذه اللحظة غيرت من العراق والعراقيين والمجتمع العراقي برمته بوسائل لم تحدث في العراق الحديث منذ تأسيسه وبطريقة لم يكن من الممكن تصورها من قبل، فالغزو الأميركي خلق دولة تعيش أزمات وعنفاً متصلاً، أضافت الكثير إلى ما كان العراق والعراقيون يعانونه من قبل في ظل حكم «البعث» من أزمات وفقر وحروب داخلية وخارجية، وانقسامات سياسية واجتماعية وفساد مستشرٍ. إن الانقسامات وعمليات التدمير الشامل التي تسبب فيها الغزو أفسحت الطريق أمام كل ما ألم بالعراق من مظاهر اللامبالاة والإهمال والفساد والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الغزاة والنخب السياسية التي تعاونت معهم وساعدتهم منذ اللحظات الأولى التي بيتوا فيها النية للغزو. وأعقب ذلك أن النخب العراقية التي تواترت على حكم العراق بعد أن غادره الأميركيون فشلت في بناء عراق ما بعد «البعث» وما بعد الغزو، أي بناء دولة وطنية عراقية قادرة على العمل وعلى التعامل الصحيح مع المحيط الخارجي إقليمياً وعالمياً. وهذا بدوره أدى إلى تأجيج أزمات العراق وعلى تفاقم العنف والعنف المضاد بين مكوناته الداخلية، خاصة السنة والشيعة، دع عنك جانباً تزايد تشبث الأكراد بنزعتهم الاستقلالية الجامحة. ومعنى ذلك أن نتائج ما بعد خروج الولايات المتحدة من العراق هي التي كشفت الرؤى المتنافسة الكامنة لدى المكونات العرقية في تمييز الذات على أسس مذهبية وطائفية. تلك الرؤى المتنافسة كانت مقموعة بعنف من قبل نظام حزب «البعث» الذي لم يتح لها ولو للحظة واحدة أن تطفو على السطح. وهذا بدوره يفصح عن نزعات هوية ضيقة كانت كالمارد الذي تم إدخاله في قمقم ضيق لقرون طويلة، جاءت في نهاية المطاف نخب سياسية ضيقة الأفق لكي تخرجه من قمقمه، وتطلق له العنان لكي يمارس خطاياه وذنوبه بدعم خارجي من قبل كل من يهمهم أن يتمزق العراق إرباً إرباً. وعلى ضوء هذا السيناريو المخيف، وإلى اللحظة التي تستلم فيها الإدارة الأميركية القادمة زمام الأمور في البيت الأبيض، وتتضح خطوط سياساتها المقبلة في العراق والمنطقة برمتها، سيبقى الوضع وكأنه لا توجد ضمانات حقيقية لبناء عراق جديد كدولة متماسكة سواء كان ذلك على صعيد حدوده السياسية القائمة أم على صعيد فكره ومثله وقيمه السياسية، وذلك على الرغم من تمكن الحكومة الحالية من استعادة الموصل أو غيرها من مناطق العراق التي تقع تحت سيطرة «داعش» أو غيره من الفئات الإرهابية والمتطرفة. معنى ما نطرحه هو أن تفتت العراق أو بقاءه متماسكاً أمران ليس من المستحيل حدوثهما أو عدم حدوثهما أيضاً، فكلاهما قائم وبقدر متساوٍ تقريباً، فقد مرت بالعراق أحداث على مدى الأربعة عشر عاماً المنصرمة أو نيف، بدا فيها وهو على شفا التفكك، ولكن في لحظة مثيرة للاستغراب نراه وقد عاد متماسكاً مرة أخرى. إن السؤال الذي يبقى قائماً هو: إلى متى سيبقى العراق قادراً على تجاوز حافة الهاوية هذه؟ *كاتب إماراتي