حين أعلن رئيس الوزراء الهندي «ناريندرا مودي» -في إجراء مفاجئ- إيقاف تداول أوراق النقد من فئات 500 و1000 روبية، اعتقد كثير من الناس أنها خطوة جريئة للتصدي لظاهرة «الأموال السوداء» ومنع تداول مليارات الروبيات من الأموال غير المحسوبة في الاقتصاد الرسمي لكبح جماح تمويل الإرهاب والقضاء على أوراق النقد المزورة. لكن بعد مرور شهر على إجراء إبطال قيمة أوراق النقد تلك، يتزايد الشك بشأن إذا ما كان هذا الإجراء قد ضرب فعلاً اقتصاد «الأموال السوداء» الذي تتركز فيه غالبية الثروة إما خارج البلاد وإما في قطاع العقارات والذهب داخل الهند. والقرار تسبب في متاعب كثيرة لمئات الملايين من سكان البلاد لأن الإجراء أخرج 86 في المئة من العملة من التداول، مما أدى إلى نقص شديد في السيولة النقدية داخل البلاد. وما زالت هناك طوابير طويلة للغاية تصطف أمام البنوك حتى بعد مرور شهر على البدء في تنفيذ الإجراء. وتكافح الحكومة جاهدة لضخ نقود جديدة بدلاً من أوراق النقد التي خرجت من نظام التداول. وتضررت بشدة الحياة اليومية لمئات الآلاف من العمال العاديين والباعة والتجار الصغار. والمناطق الريفية في البلاد كانت الأكثر تضرراً لأن التعاملات تجري نقداً في الغالب هناك. و«الأموال السوداء» هي التي لا تُدخل حسابات الاقتصاد الرسمي لتفادي دفع ضرائب عليها منذ بداية الحصول عليها. ولأن طبع نقود جديدة لتحل محل النقود القديمة التي تم إبطالها يستغرق وقتاً طويلاً، تحاول الحكومة تشجيع الناس على البدء في عملية التعامل المصرفي الإلكتروني واستخدام بطاقات الصراف الآلي. لكن في المناطق الريفية هناك نسبة كبيرة من الهنود أميون تقريباً، ولا تجري التعاملات إلا نقداً لأن البنية التحتية للبنوك إما أنها غير متوافرة وإما أنها ضعيفة للغاية. وفي مناطق كثيرة، يخدم بنك واحد فقط عدداً من القرى، ونتيجة لهذا ما زالت الطوابير طويلة أمام البنوك والناس يتزايدون غضباً. وانتهى موسم حصاد محاصيل القطن وقصب السكر، لكن تأخر إعداد الأرض لمحاصيل الموسم التالي مع عدم توافر النقد لدى المزارعين لشراء البذور ولدفع أجور عمال الزراعة. وبائعو الخضروات المحليون وأصحاب المتاجر الصغيرة في القرى من المتضررين بشدة من الإجراء وهم يتساءلون عن طول الفترة التي سيظلون يبيعون فيها بضائعهم دون الحصول على نقود من المشترين. ومن المهم لحكومة «مودي» أن تعيد الأمور إلى نصابها سريعاً خاصة في الولايات التي يقترب فيها موعد إجراء الانتخابات. ومن هذه الولايات ولاية «أوتار براديش» التي بها ستة في المئة من فقراء العالم والتي من المقرر أن تُجرى فيها الانتخابات في وقت مبكر من العام المقبل. وهذه الولاية هي أكثر ولايات البلاد أهمية سياسية لأن بها أكبر نسبة تمثيل في الغرفة العليا بالبرلمان الاتحادي الذي يمثل فيه الحزب الحاكم أقلية. والانتخابات في هذه الولاية هي أول اختبار سياسي لمسعى «مودي» لإخراج بعض فئات النقود من التداول. وكان رئيس الوزراء الهندي السابق مانموهان سينج وهو اقتصادي بارز قد حذر من احتمال أن يؤدي هذا الإجراء إلى انخفاض بنسبة اثنين في المئة في نمو اقتصاد البلاد. ووصف رئيس الوزراء السابق الإجراء بأنه «سوء إدارة» من الحكومة لأن تطبيقه جاء دون أي إعداد سابق أو تفكير استراتيجي. وما زالت الشكوك تتردد بشأن إذا ما كان الإجراء سيحقق الهدف المعلن لكبح جماح الاقتصاد غير الرسمي. فقد أفادت تقارير أن أشخاصاً أصحاب نفوذ يمتلكون ثروات غير محسوبة في الاقتصاد الرسمي استطاعوا بالفعل الحصول على مبالغ كبيرة من العملة التي دخلت السوق حديثاً بدلاً من العملة القديمة من خلال وسائل كثيرة مثيرة للشكوك. ومن ثم، فقد وجد هؤلاء الأشخاص وسائل للتغلب على مساعي الحكومة ونجوا بثرواتهم المشتبه بها وغير المحسوبة في الاقتصاد الرسمي بينما عانى ملايين من الناس العاديين تلك العملية برمتها. وأيضاً يثور عدد من الأسئلة بشأن تأثير الإجراء في الاقتصاد الهندي الذي يعتبر أسرع اقتصاديات العالم نمواً. وتشير تقارير إلى أن الاستهلاك وهو محرك رئيس للنمو الاقتصادي تضرر بشدة بسبب الافتقار إلى أوراق النقد وأن النمو قد يتراجع بأكثر من اثنين في المئة. وفي الهند، تعتبر المشروعات الصغيرة ومتوسطة الحجم التي تهيمن على القطاع الصناعي محركاً أساسياً لنمو التصنيع. وهناك مخاوف الآن من أن يؤدي الافتقار إلى النقد إلى تقلص نمو التصنيع وهو القطاع الذي يسعى مودي لتنشيطه. وتضرر أيضاً قطاعا الزراعة والحرف، وهما قطاعان غير منظمين، بسبب عدم توافر النقد. ولا شك في أنه يتعين على الحكومة إعادة الأمور إلى نصابها بأسرع وقت ممكن. وإذا استمرت الطوابير الطويلة أمام البنوك مع بداية العام الجديد، فسيجد مودي صعوبة في تفسير ما يحدث وقد يتضرر حزبه بهاراتيا جاناتا الحاكم من عواقب الإجراء سياسياً. د. ذِكْرُ الرحمن* *رئيس مركز الدراسات الإسلامية في نيودلهي