حضرت بمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية أول أمس محاضرة عنوانها «التربية الأخلاقية أساس بناء الأمم» طاف بنا فيها الناقد والمفكر الدكتور علي بن تميم واسعاً وعميقاً في شرح هذه المسألة من شتى زواياها الفلسفية والاجتماعية والدينية والتربوية والنفسية، لينتهي إلى توصيات وتصورات تحتاج إلى إمعان النظر فيها، ثم التحمس لها، والعمل على تطبيقها في واقعنا. رغم أن المحاضرة، التي حضرها خبراء وباحثون وكتاب وإعلاميون ومهتمون بالمعرفة يتقدمهم سعادة الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي مدير عام المركز وأستاذ العلوم السياسية بجامعة الإمارات، كانت ترمي بالأساس إلى المساهمة في التمهيد لخطوة تعتزم دولة الإمارات اتخاذها ابتداءً من شهر سبتمبر المقبل، بجعل مادة التربية الأخلاقية ضمن المنهج الدراسي في جميع صفوف الحلقتين الأولى والثانية في المدارس، فإنها ضربت مثلاً صالحاً للتطبيق في مساقات ومناهج دراسية في الدول العربية والإسلامية، لاسيما بعد أن انحرفت التنظيمات والجماعات- التي توظف الدين في تحصيل السلطة السياسية وحيازة الثروة الاقتصادية والتمكن الاجتماعي القائم على القسر والإجبار المادي والمعنوي- بالدين عن مقاصده السامية، وغاياته النبيلة، ومراميه الخيِّرة دوماً، ونزعت عنه في أفكارها وخطاباتها وممارساتها الثوب الأخلاقي، بل إن منها ما يجعل الدين في صراع مع الأخلاق، بدعوى أن الأخيرة منبعها الضمير والتأمل والخبرة الإنسانية والموروث الحضاري، وليست التعاليم الدينية النصية، وهذا كذب وافتراء. بدأت المحاضرة بعبارة دالة تقول: «الأخلاق هي جوهر الدين، والرؤية الدينية المطروحة حالياً، بسبب غلبة أصوات الغلاة والمتطرفين والمتزمتين والمتنطعين، تعاني من فقر شديد في الوعي الأخلاقي، رغم أن الانشغال به، والسؤال عنه، قديم في الثقافة العربية الإسلامية، فما جرى من غلبة الفقه على الفلسفة، والشريعة على الأخلاق، والتدين على الدين، والقشور على اللباب، والمظهر على الجوهر، والطقوس على القيم، لم يؤد إلى رعاية قضية الأخلاق، وإعطائها ما تستحقه من عناية»، لتعرض، في سياق تحليلي وتأملي في آن، نماذج من الحِكم والأمثال والرؤى والأشعار والتصورات والمقولات والخبرات والحكايات التي صورت مسألة الأخلاق وشرحتها، وردت على المتحللين منها، والزاعمين بنسبيتها، التي لا تعرف إطاراً مرجعياً تتم العودة إليها، وقيماً ضابطة تجليها في الأذهان والنفوس، ونقطة مركزية تنطلق منها، أو تتأسس عليها، تبين للقاصي والداني كيف يميز الطيب من الخبيث، والحسن من القبيح، والخير من الشر، والنافع من الضار، والمقبول من المرفوض. انطلقت المحاضرة من الأساس الفلسفي للأخلاق لتشرح ورودها في أقوال سقراط وأفلاطون وأرسطو وأفعالهم، وقبلهم ما انتهى إليه فلاسفة ومفكرون ومصلحون قدامى في الحضارات القديمة، ثم الفلاسفة الأوروبيين المحدثين مثل الألماني كانط الذي طالب بمشروع عالمي «للسلام الدائم» ونيتشه صاحب نظرية الإنسان الفائق أو «السوبرمان» وعالم اللاهوت السويسري هانس كونج الذي دعا إلى «مشروع أخلاق عالمي»، وقبلهم أتى على ذكر التصورات التي قدمها فقهاء وفلاسفة مسلمون مثل ابن رشد وابن حزم، وصولاً إلى محمد عبده وشكيب أرسلان وغيرهما. أراد ابن تميم من خلال إلقاء الضوء على «علم الأخلاق» إلى الوصول إلى «التربية الأخلاقية»، وهنا يقول: «إذا كان علم الأخلاق يسعى للكشف عن الخير والشر أو التعريف بهما وبيان مواضعهما في الحياة والسلوك، فإنّ التربية الأخلاقية هي التي تعمل على تنشئة الفرد والجيل على السلوكيات الإيجابية الخيّرة وبناء الإرادة والروح الجماعية البناءة، وتكوين قناعة عقلية وعلمية لدى المتعلم بتلك القيم، ليكون إيمانه والتزامه بها ودفاعه عنها طوعيًا، لا إكراه فيه ولا غصب». وقد تعامل المحاضر مع قضية «التربية الأخلاقية» باعتبارها «ضرورة فرضتها التطورات المتلاحقة في العالم» ليستعرض تجارب دول مثل اليابان وفرنسا وبريطانيا وماليزيا وسنغافورة والهند وغيرها، ثم يعرج على عناصر التربية الأخلاقية المتمثلة في الحب غير المشروط والأدب، والصدق، والعمل الجاد، واحترام الآخر، والتمسك بالقيم الإيجابية، وروح التعاون، والتعاطف، والتسامح، ثم يشرح بإسهاب رؤية القيادة السياسية لدولة الإمارات لهذه القضية، التي دفعت في اتجاه تبني تدريس الأخلاق في المدارس، بغية مواجهة التطرف الديني، وترسيخ القيم والسلوك الإيجابي لدى المواطنين، والتحلي بفضيلة تفهم الآخر وقبوله، ليختم قائلاً: «إن بادرة التربية الأخلاقية الإماراتية فرصة سانحة إذاً، وعلى التعليم الحكومي استثمارها على نحو نافع، بعيداً عن المقاربات التقليدية، والتلقين المخل، والخطب الجوفاء، والأمثلة المكررة، والشعارات الرجراجة». إن من يرومون الإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي عليهم أن يسعوا إلى ثورة روحية وأخلاقية تقوم على الحرية والعقلانية والمساواة والعدل، تنطلق من قاعات الدراسة، وصفحات الكتب، وحلقات المثقفين الضيقة، إلى رحاب المجتمع، عبر التعليم ومنهاجه، والتثقيف وأدواته، والإعلام وقنواته، والمجتمع الأهلي وآفاقه.