يرى العديد من المحللين والمراقبين أن الظاهرة الأكثر إثارة لمشاعر الكآبة في الانتخابات الأميركية الأخيرة، هي تلك المتعلقة بالاستخدام المتنامي للأخبار الكاذبة، وتصديق الروايات المضللة والمفبركة والمنقولة على ألسنة القادة السياسيين، ومنهم على وجه الخصوص دونالد ترامب والنخبة التي تؤيده. وباتت هذه القضية الشغل الشاغل لفئة عريضة من السياسيين منذ عمدت مصالح المخابرات الأميركية إلى توجيه الاتهام المفتقر إلى الأدلّة إلى روسيا بنشر معلومات ملفقة تهدف إلى إفشال حملة هيلاري كلينتون خلال الانتخابات الأميركية. وأدى إصرار الرئيس المنتخب دونالد ترامب على إنكار هذه التهم ورفضه الموازي لتوجيه أي اتهامات ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى إشعال عاصفة من الشجب والاستنكار ودفعت كبار السياسيين الجمهوريين والديمقراطيين في الكونغرس إلى المطالبة بإجراء تحقيق على المستوى الرسمي حول النشاطات الروسية المتعلقة بالقرصنة الإلكترونية. ويبدو من المرجّح أن من شأن مثل هذا الضغط الحزبي المشترك الذي يخضع له الرئيس المنتخب، أن يفضي في نهاية المطاف إلى درجة معينة من القبول بهذا الإجراء. لكن ترامب يرفض رفضاً باتاً أي إشارة يمكنها أن تضمر في طيّاتها ما يشير إلى أن الانتخابات «اختُطفت» من هيلاري كلينتون بسبب القرصنة الإلكترونية الروسية. وفي هذا الوقت بالذات، قال الرئيس باراك أوباما بكل وضوح إنه، وخلال الشهر المتبقي له في البيت الأبيض، عازم على متابعة قضية القرصنة الروسية، وقد يأمر باتخاذ إجراء انتقامي ضد بوتين ووكالاته الاستخباراتية. وفي ما يبدو للمراقبين بأن التدخل الروسي في السياسات الأميركية يجسّد الحدث الأكثر بروزاً وخطورة في الانتخابات الأخيرة، فإن قضية الأخبار «الملفّقة» التي تزداد رواجاً، تجتذب كمّاً ضخماً من الاهتمام بسبب انتشارها السريع في الأوساط السياسية والاجتماعية، وأيضاً بسبب الحقيقة القائمة الآن، والتي مفادها أن معظم الناس أصبحوا يتلقون أغلب معلوماتهم السياسية من مواقع التواصل الاجتماعي التي اعتادت على نشر الأخبار والقصص الكاذبة. ويمكن لحادث شهدته العاصمة واشنطن مؤخراً أن يلقي بالمزيد من الضوء على مدى الخطورة البالغة التي آلت إليها هذه المشكلة، ولماذا أصبحت تستحق بذل أقصى الجهود الممكنة لوضعها تحت السيطرة. ففي يوم 4 ديسمبر الجاري (2016)، توجه شخص يدعى «إدجار ماديسون ويلش»، وهو أب يبلغ من العمر 28 عاماً، ويسكن في ولاية نورث كارولاينا، بسيارته وهو مسلح ببندقية رشاشة ومسدس يدوي، نحو مقهى لبيع البيتزا يبعد عن بيته بنحو ست ساعات، ويدعى «بينج بونج بيتزا»، ويقع شمال غرب واشنطن. وكان يهدف من زيارته إلى «التأكد شخصياً» من مدى صحة الأخبار التي اطلع عليها من مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة حول الجرائم المتكررة التي يشهدها ذلك المقهى والمناطق المجاورة له. وتقول تلك التقارير إن هيلاري كلينتون وأنصارها كانوا مهتمين بحلقة تحترف الجرائم الجنسية بحق الأطفال لها امتدادات وارتباطات عالمية بهذا النوع من الجرائم البشعة. ودخل «ويلش» إلى المقهى بسرعة وأطلق عيارين ناريين من بندقيته باتجاه السقف دون أن يصيب أحداً بأي أذى، وهذا هو بيت القصيد من تجربته هذه. وسرعان ما أطبق عليه رجال الأمن واعتقلوه. وإلى جوار المقهى، يقع أرقى مخزن لبيع الكتب في العاصمة واشنطن، يدعى «السياسة وأدب النثر» Politics and Prose، وهو مزدحم بشكل دائم بالمثقفين الذين ينتمون إلى مجتمع النخبة. وكان حادث إطلاق العيارين الناريين الذي سُجل قريباً من المخزن قد أشعل موجة من الغضب في أميركا كلها، على الرغم من أنه لم يخلِّف أي ضحية. وكُتب لهذا الحادث الذي تناولته الصحافة ووسائل الإعلام بالكثير من المبالغة، وتحت عنوان «بوابة البيتزا»، أن يعيد الاهتمام بالأخطار الاجتماعية الكبيرة الكامنة في الانتشار المتزايد «للأخبار الكاذبة» على المجتمع. وحقيقة الأمر أن هناك مئات الألوف من الشبّان في الولايات المتحدة الذين يحملون البنادق الآلية وبعض الأسلحة الأخرى بطريقة قانونية. ومن المعروف أن قوانين مراقبة حيازة المسدسات في الولايات الجنوبية والغربية متراخية جداً. ويمكننا أن نلاحظ كيف أن المسدسات اليدوية تسبب ما أصبح يعرف باسم «رعب الشوارع» الذي يمكن أن نلمسه أيضاً على الطرق السريعة بشكل يومي. ومن المعروف أيضاً أن العنف المترافق مع استخدام المسدس يتكرر في الولايات المتحدة على نحو يفوق جميع الدول الديمقراطية المتطورة الأخرى. ووفقاً للمغزى الذي توحي به مثل هذه الروايات الملفقة، التي تناولت ما حدث في مقهى البيتزا، خصوصاً منها ما يتعلق بالاعتداء الجنسي على الأطفال والقضايا المرتبطة بالهجرة، يمكننا أن نقف على مدى التعقيد الذي تنطوي عليه هذه المشكلة. وإن عاجلاً أم آجلاً، فسوف نلاحظ كيف أن الحوادث الخطيرة الأكثر سوءاً من ذلك الذي حدث في شمال غرب واشنطن، سوف تتكرر، وستكون أرواح العشرات من الناس الأبرياء عُرضة للخطر.