ماذا فعلت مرثية محمود درويش الشهيرة «لاعبُ النرد» في وجدان وعقل الراحل الكبير صادق جلال العظم حتى يُوصي بأن تُتلى على روحه؟ ثماني سنوات مرت بين لحظة ولادة وقراءة «لاعب النرد» للمرة الأولى بصوت درويش صيف 2008 ولحظة كتابة العظم لوصيته في مكتب ناشره الألماني، كاي هينيغ غيرلاش، في برلين. كأنما نرد العظم ظل يجرب حظه مع الحياة والموت والمنفى والأمل والثورة والإحباط، سارداً سيرة ثرية لابن الأرستقراطية السورية الذي قرر الانحياز لماركسية تنتصر للفقراء منذ يفاعة شبابه. بعد موت الشاعر صار للقصيدة حيوات أخرى تتطاول باستمرار واعتداد مُلفت. في كل مرة أقرأُ فيها قصيدة الفلسفة والحياة والأمل والموت والنصر والهزيمة هذه، تُروى لي القصة بشكل جديد وبأحداث طازجة. حياة الشاعر لم تنته مع الموت، بل هربت منه وتسللت إلى «لاعب النرد» وظلت تفور وتقامر كأنما إلى الأبد. لئن كانت «لاعب النرد» إعلان استسلام الحياة العادية لبطش الموت المحتم، فهي أيضا إعلان انتصار للحياة بغرورها الجميل وديمومتها في الشعر على الضد من الموت والهباء. قبل عام وأزيد قليلاً كانت فيمار، مدينة الشاعر والمفكر الألماني الكبير، تحتفي بصادق جلال العظم، وكأنها وشاعرها يودعانه قبل أن يرحل. كنا مجموعة قليلة من العرب الذين جاؤوا لمشاركة العظم حصوله على جائزة «ميدالية غوته» السنوية، وهي الأعرق والأكثر رصانة في هذا البلد. يومها كتبت جزءا من المرارة: «غوته مُحتفياً بصادق جلال العظم». اليوم أرواح شاعرين كبيرين، لاعب نرد فلسطين، وفارس لغة ألمانيا، ترحب بروح المفكر الكبير. وفاءً لروح فتى دمشق التي بقيت وثابة حتى الابتسامة الأخيرة نواصل لعبة النرد مُبتسمين. روحه لا تحتمل المديح الزائد، بل تتوق لتقليب الأفكار التي حارب من أجلها. أهمية العظم تكمن في مواقفه الشجاعة وأفكاره السجالية التي تستثير التفكير والنقد والاتفاق والاختلاف. ولأنه لم يكن «مثقف القطيع» بل «المثقف الناقد» و«المثقف القلق»، فقد ظل حراً من قيود الأدلجة ومن الاندراج في أي قطيع. في لحظات شديدة الاختبار على كل مثقف ومفكر، وقف العظم مع ضميره الفكري، وصرح عنه دون مواربة، ولم يجامل السائد والمُستقر من أفكار وتوجهات. في نقده للهزيمة، نفض الكسل التحليلي التآمري الذي كان (ولا زال) يلقي باللائمة على الغرب والآخرين ويعلق على مشجب الخارج كل الهزائم والتخلف الذي نرتع فيه. في نقده لسيطرة الدين على الفضاء العام وتفشي ذهنية التحريم، كسر الخطوط الحمراء وقدم نقداً من داخل منظومة العقل الديني. وفي نقده لنمط آخر من الكسل الفكري أنتجته مقولات «الاستشراق» الإدوارد سعيدية، قال إن شطب عمل الاستشراق والمستشرقين دفعة واحدة، وهو النتيجة التي لم يردها أو يدعو إليها سعيد، يعني تعزيز فكر المؤامرة، وتوفير عتاد رخيص وكسول للفكر الرجعي والظلامي كي يتمترس وراءه في نقد كل شيء له علاقة بالغرب. فرح العظم ب«الربيع العربي» واحتفى به فكرياً ووجدانياً وسياسياً، ورأى فيه عودة السياسة إلى الناس وعودة الناس إلى السياسة بعد عقود طويلة من الجمود والاستبداد. رفض الاستقرار الظاهري الذي يتفاخر بإحلاله الاستبداد وأسماه «استقرار القبور». رأى العظم في لحظة «ميدان التحرير» عودة التاريخ إلى المنطقة، وظل متفائلا حتى اللحظة الأخيرة، برغم كل السوداوية التي هبطت على الثورة الأقسى في سوريا. وعن سورية نفسها نطق بأجرأ ما قد ينطق به مثقف في موقعه، وكتب عما كان يجول في عقول الكثيرين، لكن الخشية من الاتهام بالطائفية أسكتتهم. تحدث عن «العلوية السياسية» والتي تعني وقوع سوريا في قبضة نظام اشتغل على إعادة إنتاج البلد العريق وفق سياسة طائفية لتقويض الأكثرية، لصالح فئة زبائنية أقلوية. انتقد العظم التوجهات الغربية حيال الثورة السورية بزعم الدفاع عن الأقليات في سوريا، وقال إن سوريا وتاريخها لم يشهدا أي حروب أهلية أو طائفية تستدعي هذا النفير المزيف للدفاع عن الأقليات، وكأن الأكثرية هناك تنتظر اللحظة السانحة لتبطش بالجميع. لم يكن العظم مثقفاً عاجياً يتكسل على أرائك اليقين والتنظير المُنفصل عن الواقع. ظل يلعب النرد، نشطاً وقلقاً. رحل العظم، لاجئاً ومُتعالياً عن قبول أي مساعدة مالية من الدولة التي استضافته، فيما ظل الدق على الجدران متواصلاً، وواعداً بأن استقرار القبور سوف ينتهي مهما تمادى النردُ في خداعه للأموات وللأحياء.