قصة أسلحة الدمار الشامل التي اتخذتها الولايات المتحدة ذريعة لغزو العراق وإسقاط نظامه السابق واحتلاله طيلة ثمانية أعوام من دون إيجاد تلك الأسلحة، رغم المعلومات والتقارير الاستخبارية، هذه القصة تكاد تشبه قصة الإرهابيين التي اعتمدتها إيران عنواناً لغزو سوريا واحتلالها، وإبقاء نظامها الذي سبقهما في استخدام الأسلحة الثقيلة ضد متظاهرين سلميين من شعبه، ولما عجز منح الدولتين «مشروعية» استباحة مدن، مثل حلب. من الواضح أن هذا النظام بتركيبته الطائفية لم يكن معنياً بالأهمية الحضارية لحلب، وإنما عرف فقط أهميتها الاستراتيجية في معركته العسكرية من أجل إدامة سلطته. حلب لم تشهد أحد فصول الحرب على الإرهاب، رغم وجود مجموعة مصنّفة فيها، بل شهدت مرحلة مفصلية من الصراع السوري الداخلي بين النظام ومعارضيه، أولئك الذين وصمهم باكراً جدّاً بـ«الإرهابيين» ودأب على اختطافهم وقتلهم بالتعذيب. هناك طبعاً إرهاب في سوريا، لكن هناك أنواعاً عدة من الإرهاب. لا أحد يجادل في طبيعة تنظيم «داعش»، فهو إرهابي خالص لم يبرهن أن لديه هدفاً ولا مشروعاً آخر غير القتل للقتل. لكن «جبهة النُصرة» التي غيّرت تسميتها إلى «جبهة فتح الشام» (جفش) أثارت جدلاً، ربما لأن غالبية مقاتليها من السوريين، ولأن مبايعة زعيمها لزعيم «القاعدة» لم تدفعها إلى ارتكاب عمليات خارجية على النمط «القاعدي»، بل قصرت عملها في جبهات القتال مع النظام كأي فصيل آخر. وإذا كان سلوكها الواقعي لا ينطوي على ممارسات إرهابية، فإن مجرد وجودها كتنظيم قاعدي مصنّف شكّل اشتباهاً بالمعارضة وعبئاً عليها، وأصبح مؤكّداً بعد حلب أنه لم يساهم في إفشالها فحسب بل خصوصاً في تغيير النظرة الخارجية إليها وإلى قضيتها. لكن «جفش» و«داعش» استُخدما لإضفاء «مشروعية» على الدور الإيراني ثم على الدور الروسي، وفي غضونهما على الدور الأميركي، وأخيراً على الدور التركي. والواقع أن هذه الأطراف الخارجية الأربعة تبادلت قبول بعضها بعضاً وإن تفاوتت أهدافها، رفعت جميعاً بالإضافة إلى النظام السوري شعار محاربة الإرهاب. وإذ دافع الإيرانيون عن هذا النظام، كونه أداتهما وممرّهما والغطاء الضروري لوجودهما على أرض سوريا، فإن الأميركيين والأتراك وغيرهما كثر اعتبروا في الحدّ الأدنى أن هذا النظام «اجتذب» الإرهاب وأفرط في ممارسة «إرهاب الدولة»، وفي الحدّ الأقصى أنه وإيران صنّعا هذا الإرهاب لاختراق مناطق المعارضة، خصوصاً أن قنوات الاتصال لا تزال ناشطة بين الإرهابيين الموصوفين وقادة «القاعدة» الموجودين في إيران. بعد انتهاء الحرب الباردة صدرت عشرات الكتب المستندة إلى وثائق كشفت بشكل رسمي أو شبه رسمي أن الاستخبارات الأميركية عوّلت في مكافحة الشيوعية (إرهاب ذلك الزمان) على الإسلام والإسلاميين، لكنها اعتمدت أيضاً على مجموعات متطرّفة في يساريتها وعلمانيتها. وبذلك كان كل جانب يخدم الهدف المتوخّى بإسلوبه، إذ أن فكر الإسلاميين يناهض الإلحاد الشيوعي، وتطرّف اليساريين يظهّر الجانب الفوضوي في الشيوعية، وبالتالي كان هذان النقيضان حليفَين غير معلنَين لليمين الغربي في حربه تلك. بمعزل عن الفوارق تبدو المجموعات الإرهابية اليوم حليفاً «موضوعياً» و«وظيفياً» للأطراف الخارجية التي تتخذ منه وسيلة وسبباً للتدخّل في سوريا، غير أنها تحالفت في ما بينها موضوعياً ووظيفياً أيضاً كي تهزم شعباً لم يكن يوماً ملوّثاً بوباء الإرهاب وتحافظ على نظام استعدى شعبه وكان له تاريخ طويل من التعامل مع الإرهاب، فعدا ممارساته طوال ثلاثين عاماً في لبنان، كان عراق نوري المالكي بلغ بعد تفجيرات 19 (أغسطس) 2009 حد اختصام النظام السوري أمام مجلس الأمن الدولي لولا تدخل طهران لطيّ هذه الشكوى. لكن إيران ثم عراق المالكي ثم حيدر العبادي هما اليوم حليفا هذا النظام وأبرز مزوّديه بميليشيات أثبتت بممارساتها في بلدانها أنها ربيبة نهج إرهابي. ما حصل في حلب، هل هو نصر على الإرهاب أم نصر للنظام السوري على شعبه؟ رغم أن رأس النظام أعلن نصره، إلا أن هذا النصر هو واقعياً لروسيا ، كما أنه نصر لإيران وميليشياتها في إحدى حروبها لنشر نفوذها! وأي نفوذ يُرتجى في تدمير مدينة والرقص فوق ركامها، وفي اقتلاع سكانها وإطلاق النار عليهم في الممرات «الآمنة». كان قدر حلب أن تختصر سوريا، لذلك فإن المهزوم الحقيقي فيها ليس الإرهاب، كما يدّعي الإيرانيون، وإنما هو سوريا نفسها، لأن حلب ستفتح «بازار» تقاسم البلد دولياً وإقليمياً.