بعد كل حدث يقع في ساحات بعيدة، تسعى إيران عادة للتهليل والتهويل في القصص الإعلامية لفرد عضلاتها وعرض «انتصاراتها» المزعومة، وتوظيف «بطولات» مليشياتها بغرض التفاوض على ما هو قائم من «مكاسب» آنية في معارك نفسية يقحم فيها عملاء طهران أنفسهم ويخوضون فيها الملاحم بسيوف خشبية، والغرض من كل ذلك هو صرف النظر عن ممارساتها التسلطية في الداخل الإيراني نفسه، وتحقيق مكاسب خارجية بأي ثمن كان! كما يسعى نظامها لاهثاً لتغطية مشكلات وتحديات الداخل بتدخلات وصراعات الخارج. وفي الوقت نفسه لا تخفي طهران الرغبة في التغافل والتجاهل وغض النظر عن مدى الوهن والاستنزاف الذي حل بها بعدما صرفت وأهدرت الحصة الأكبر من احتياطاتها المالية في التنطُّع لخوض معارك بعيدة يستحيل الانتصار فيها، ودفع فواتير باهظة على وكلاء الحرب الذين ينفذون خططها ومؤامراتها ضد العديد من دول وشعوب المنطقة. إن قضية حلب وإجلاء سكانها قسراً مهجرين من مدينتهم ضمن عملية «تطهير» مذهبي ليست نصراً للإيرانيين بقدر ما هي إدانة لإجرامهم وأفعالهم، المتمثلة في الإحلال السكاني الاستيطاني الذي يجري على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وأمام عدسات المصورين وكاميرات الفضائيات. العالم كله يرى تهجير النساء والأطفال والمسنين والمدنيين العزل، والتنكيل بهم، مع أنهم ليسوا مسلحين ولا محاربين، فهم سكان حلب من المدنيين تاركين وراءهم أمتعتهم وأشياءهم وكتابات على جدران منازلهم وذكرياتهم أملاً في العودة إلى بيوتهم وبيوت آبائهم وأجدادهم عبر القرون. والمفارقة أن هذه المِحنة الإنسانية غير المسبوقة تجري فيما المليشيات الإيرانية ومن هم في ركابها من عملاء تحركهم على طريقة مسرح العرائس، يتنطعون بوقاحة لاعتبار ذلك نصراً عظيماً وفتحاً مبيناً، مهددين ومتوعدين بـ«انتصارات» وإجلاءات ونشر فظائع الإرهاب من جديد في مناطق أخرى. ولعل مَن يتابع خطاب إيران في الخارج والداخل بما في ذلك خطب الجمعة وتصريحات بعض مجرمي الحرب يدرك حجم الدعاية المكشوفة والبروباجندا الفجة التي يسعى النظام لبثها، والتي تُستخدم في كل مرة لغرض مزدوج، فهي موجهة للاستهلاك الإعلامي وبيع سرابات الوهم و«الانتصار» في الداخل من جهة، وتهدف من جهة أخرى إلى ترويع الشعوب وتفخيخ العقول والقلوب ونشر الذعر في المنطقة بعربدة استعراض القوة العسكرية وعنف المليشيات، والإيحاء الكيدي بوجود الخلايا النائمة المنتشرة في المنطقة على حد زعمهم، وغير ذلك من صور وأشكال الاستعراض كالنفخ في دور شذاذ آفاق الجماعات الطائفية في الشام والعراق. ولكنّ الحقيقة المغيّبة في هذه الدعاية الإعلامية، والتي لا يتم التطرّق إليها في خطاب التهييج والتهريج الإعلامي، هي أن حجم الخسائر المادية والعسكرية التي تكبدتها إيران وعملاؤها في اليمن وحده يوضح مدى ضعفها وتراجع قوّتها والأعباء الباهظة التي تكبدتها، وتناقض دعاواها ودعايتها المرسلة مع الحقائق الماثلة على الأرض، وواقع موازين القوى في ميادين المواجهة. وكذلك الحال أيضاً في سوريا فحجم الخسائر البشرية والمادية والعسكرية خلال الثورة السورية ونزيف الاستنزاف هناك أودى بالنظام الإيراني في الداخل، وهي خسائر بشرية ومادية كبيرة بأرقام مهولة، إلا أن بعض ملالي طهران ظلوا يسعون لإخفاء كل ذلك حتى لا ينكشف ضعفهم وتتزعزع هيبتهم أمام الشعب الإيراني، بعد أن انكشفت ضآلة تأثيرهم وضحالة تدبيرهم أمام بقية القوى الإقليمية في المنطقة. وبالنسبة إلى كل من يفهم السياسة وطريقة عمل آلياتها ومآلاتها، والعلاقة السببية بين مقدماتها ونتائجها، فقد كان من المقدر سلفاً أن تؤدي سياسات إيران التدخلية، التي تفوق طاقتها الحقيقية، إلى إضعاف سلطتها المركزية، وانفلات الأمور من يدها بطريقة لن يعود بالإمكان ضبطها، مثل ما حدث للاتحاد السوفييتي السابق، الذي انخرط في تدخل عسكري مكلف في أفغانستان فانتهى به ذلك إلى الإنهاك والتفكك. ومما لا شك فيه أيضاً أن بعض عصابة النظام في إيران الذين تحاصرهم المشاكل من أكثر من اتجاه يدركون أن جزءاً من مشهد «الفجر الكاذب» الذي صنعوه إنما يعبّر عن كومة من الأوهام، والتفكير بالتمنّي لديهم أكثر من تعبيره أو تعيينه لواقع استراتيجي قائم، إذ لم يعد خافياً على أحد تحول التدخل الإيراني في سوريا إلى فخ أوقعت طهران نفسها فيه دون وعي بحقيقة الاستراتيجيات المضادة التي تتبناها قوى الغرب في الساحة السورية، والتي تريد من خلالها لإيران مزيداً من الانزلاق في الوحل السوري ليصير إلى استنزاف طاقاتها فيما يمكن تسميته بالورطة السورية. وقد تصل طموحات الغرب وحتى تقديراته في إنهاك إيران في ذلك المقلب إلى ما هو أبعد من مجرد استنزاف آني، أي إلى حد انعكاس ذلك الاستنزاف على الاستقرار الداخلي الإيراني وإمكانية وصوله حد تفكيك الجغرافية الإيرانية نفسها، وخاصة أن إيران تنطوي على خليط عرقي وحالة انقسام اجتماعي يجري ضبطها حتى اللحظة بقوة وقسوة سياسة مركزية صارمة، لا غير. واليوم تستعجل إيران الإعلان عن «انتصارات» لم تنجزها بعد، وما زال المعارضون في سوريا على رغم كل الإشكالات التي يواجهونها، يقلبون المعادلات أحياناً كل يوم إلى درجة تجعل الأرض كالرمال المتحركة تحت أقدام إيران وحلفائها، وإذ تسعى وسائل الإعلام الإيرانية إلى تسمية ما جرى في حلب بـ«الانتصار»، عقب ارتكاب فظائع القتل والإبادة والتشريد والتجويع والتهجير ضد المدنيين العزل، فإنها تتغافل وتتجاهل حقيقة أن سقوط المدينة، التي كانت تعد أهم مناطق للمعارضة السورية، بيد قوات النظام السوري، إنما جرى بفعل دعم عسكري كبير من قبل دولة عظمى هي روسيا، وليس من قبل إيران التي يحاول إعلامها التطفل على هذه النتيجة في حلب بطول لسان وتهور وقفز على حبال الكذب والتضليل والتطبيل. فدور طهران ومليشياتها في هذه المعركة هامشي، بالموازين العسكرية والسياسية، وهي في كل ذلك فاعل تابع من الدرجة الثانية أو الثالثة، وهذه هي الحقيقة التي تحاول الآن أبواق الدعاية الإيرانية إغراقها في بحر من القيل والقال، بعدما أغرقت نساء وأطفال حلب في بحر من الدماء.