أقل من 500 كيلومتر هي المسافة الفاصلة بين مدينتي الموصل العراقية وحلب السورية، المدينتان اللتان احتلتا صدارة اهتمام الصحافة الدولية خلال الأشهر الماضية، وتتعرضان لهجمات من قوات حكومية منفصلة لتحريرهما من سيطرة الفصائل المسلحة. ومن خلال عملية عسكرية انطلقت منتصف أكتوبر الماضي، تمكن تحالف يتألف من الجيش العراقي وميليشيات عراقية تدعمها إيران وأخرى كردية تدعمها الولايات المتحدة، من السيطرة على عدة قرى وبلدات في ضواحي الموصل، بعد أن ظلت تحت سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي منذ صيف 2014. وفي حلب، تحاصر القوات السورية النظامية مدعومة بالضربات الجوية الروسية والميليشيات التابعة لإيران، الفصائل الثورية المتحصنة ضمن جيوب داخل الأحياء. وتختلف قصة المعاناة في المدينتين. ففي الموصل، تزعم الحكومة العراقية أنها اتخذت الإجراءات الاحترازية الضرورية للتخفيف من عدد الضحايا المدنيين خلال هجومها على معاقل «داعش». ولا ينطبق هذا الإجراء الاحترازي على القوات الموالية لبشار الأسد التي تخوض حملة لا تعرف الرحمة على كل المدن السورية توشك على دخول عامها السادس. ويبقى هناك الكثير من العوامل التي تربط بين مصير الموصل وحلب. ومع تبدد دخان المعارك واتضاح الرؤى، قد نتمكن من رؤية الدمار والخراب في المدينتين اللتين تنفردان بأعرق تاريخ في منطقة الشرق الأوسط كلها. ويمكننا أن نتبين مدى وحشية الحرب التي تشهدها المدينتان من خلال استعراض تاريخهما. فقد سبق أن استطاعتا الصمود عبر قرون من الحروب والغزوات وعمليات الحصار والخضوع لغزوات الأعداء. وسبق للرحالة الأندلسي ابن جبير أن قال في وصفه لمدينة حلب في القرن الثاني عشر الميلادي: «كم من حرب تعاقبت عليها، لكنها صمدت. هي بلدة قديمة قدم التاريخ، وهي مدينة العجائب التي لم تتوقف عن التجدد، والتي تمكنت من البقاء بعد أن ذهب ملوكها وهلكوا». ولقد خلفت الموصل وحلب الآثار الدالة على أن المنطقة كانت مهد الحضارات منذ آلاف السنين. وخلافاً لبقية المدن التي ظهرت كمراكز دينية مثل القدس، أو كمعاقل للقوى السياسية مثل دمشق وبغداد، فإن الموصل وحلب هما أول وأضخم مركزين للتبادل التجاري. وهذا لا يعني أنهما كانتا بعيدتين عن الصراعات. فقد اتحدت المدينتان لفترة من الزمن تحت الحكم التركي الذي قاد المعارك ضد الأوروبيين. وكُتب عليهما قبل ذلك أن تتحملا غزوات المغول الهمجية. ففي القرن الثالث عشر تمردت الموصل ضد محتليها المغول مما أثار حنق قائدهم الشهير هولاكو. وبعد أن قضى على التمرد انتقم من المدينة وأهلها أشد انتقام. وفي عام 1400، احتل القائد المغولي تيمورلنك حلب ونكّل بأهلها، وذبح المدنيين وأمر باغتصاب النساء اللائي كن يختبئن داخل المساجد، وامتلأت شوارع المدينة بالجثث، وكانت هناك أكوام من جماجم القتلى خارج بوابات المدينة. ورغم كل ما حدث، تمكنت المدينتان من البقاء والاحتفاظ بموقعيهما التاريخيين، وواصلتا مسيرة الرقي والازدهار، وبلغتا قمة ارتقائهما التجاري عندما أصبحتا تشكلان نقطتي النهاية لطريق الحرير تحت حكم الإمبراطورية العثمانية. وفي الغرب، كان اسم الموصل مرادفاً للبضائع الشهيرة التي كان ينتجها الشرق، ومنها خيوط القماش الناعمة، والتي أصبحت بنغلاديش تشتهر بها الآن وتُعرف باسم «الموسلين» المشتق من اسم مدينة الموصل. وحظيت حلب بشهرة جعلتها تحتل مكانة بارزة في روايات شكسبير. وعندما تمكنت القوى الغربية من إلحاق الهزيمة بالإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، حاولت فرنسا الاستحواذ على الموصل وحلب بسبب الارتباط التاريخي والثقافي للمدينتين، والاحتفاظ بهما كجزء من محميّاتها المنتشرة في العالم. لكن اهتمام بريطانيا بمصادر النفط دفعها للاحتفاظ بالموصل إلى جانب البصرة وبغداد أو ما سيعرف بدولة العراق. وعمدت فرنسا لضم حلب إلى دمشق لتبقى منذ ذلك الوقت المدينة الثانية من حيث الأهمية في سوريا، وعاصمتها التجارية. وهذا التحلل الذي يشهده مجتمعا العراق وسوريا هو نتيجة مباشرة للسياسات الحديثة. فقد أدت الحروب المتكررة وما أشاعته من اضطراب، بالإضافة إلى دور الحكومات، إلى حدوث فراغ أمني سرعان ما استغله المتطرفون الذين غزوا المنطقة. وساعدت الحكومتان الطائفيتان في دمشق وبغداد على تعميق الانهيار الاجتماعي الذي نراه الآن. ------------------------ إيشان ثارور* *محلل سياسي أميركي ------------------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»