في رده على دعوات منظمات الإغاثة الإنسانية لوقف حرب التدمير الشاملة ضد سكان حلب، رد وزير الخارجية الروسي «لافروف» بالقول: «الحل سيأتي بعد 48 ساعة، فالمطلوب هو الإسراع بحسم العملية العسكرية لإنهاء معاناة السكان». المنطق بدا غريباً واستفزازياً، فمن المثير للدهشة أن يأتي «الحل» المنشود باستكمال حرب «إبادة» السكان العزل لإنقاذهم! ومن دواعي الاشمئزاز أن يكون الرد على الجماعات «الإرهابية» (التسمية التي تطلقها روسيا على فصائل المعارضة السورية دون تمييز)، هو بنفس المسلك والآلية، أي اتخاذ الأحياء المدنية ساحةً للقتال وتبرير قتل العزل من منظور «عدالة» القضية! ما حدث في حلب على فظاعته ليس مجرد حدث معزول في منطق الحروب الجديدة التي مارستها الولايات المتحدة في العراق عام 2003، واستخدمتها روسيا وحلفاؤها الصرب بطريقة أفظع في البلقان والشيشان، بما يشكل تحولاً نظرياً ومعيارياً في استراتيجية الحرب ونظامها التقني. الحروب الجديدة تختلف عن نمطي الحرب المعروفين: «الحروب العادلة»، أي الحروب الدينية التي وضع اللاهوتيون المسيحيون في العصور الوسطى أسس شرعيتها المتمحورة حول الغاية الأخلاقية للقتال والاستخدام الأدنى للعنف، و«الحروب الدفاعية» التي بلورها القانون الدولي المعاصر في أفق مبدأ «السلم الأبدي» الذي يجب أن يحكم العلاقات الدولية بحيث تكون المواجهة المسلحة الاستثناء المبرر بمحض الدفاع المنطلق من معيار احترام السيادة. الحروب الجديدة تدخل في سياق مفهوم «الحرب الشاملة» الذي صاغته الفيلسوفة «حنة آرندت» لضبط طبيعة الحروب التي شنتها الأنظمة الاستبدادية المعاصرة (النازية والستالينية)، بما لها من سمات تتلخص في كونها لا تستهدف هزيمة إرادة العدو أو فرض أهداف سياسية، بل تنزع من خلال تدمير شبكات العيش المشترك إلى تقويض الأفق السياسي نفسه من حيث هو أفق التقاء البشر وتضامنهم وتعايشهم. ومن هنا فإن الحروب الجديدة تتبنى منطق «التدمير السريع الساحق»، بما ضمنته التقنية العسكرية الراهنة التي وسَّعت ساحة المواجهة من ميدان النزال التقليدي بين المتحاربين إلى الحقل الاجتماعي بكامله، ومن ثم فهذه الحروب الجديدة هي حروب ضد المدن الآهلة بالسكان، وأهدافها العسكرية هي منافذ الحياة من شبكات مياه وكهرباء ومستشفيات ومدارس وجسور وطرق.. ما دام الغرض هو تحطيم النسيج الاجتماعي نفسه. في الحرب العالمية الثانية اختُبرت الأسلحة النووية والجوية لتدمير «المدن المعادية» بأقصى نجاعة وأقل تكلفة على المنتصر (غرنيكا، هيروشيما وناغازاكي)، وفي الفترة المعاصرة انتفت الحاجة إلى دخول ميدان المعركة التي انتقلت إلى مجرد تصرف تقني يتم عن طريق التحكم من بُعد بحيث يصبح العدو في مواجهة آلة القتال التقنية (الدرون)، وبذا لا يعود معنى حتى لبُعدها الإنساني المأساوي إلا من منظور الضحية الذي تتكفل به هيئات الإغاثة وشاشات الإعلام التليفزيوني والإلكتروني التي امتصت كل صدمات الغضب والإحباط. إنها ظاهرة «الشر المبتذل» التي تحدثت عنها «حنة آرندت»، أي تحوُّل القتل والإبادة إلى مجرد فعل عادي يمارسه أفراد مندمجون في مجتمعاتهم، مؤمنون بقيم الإنسانية الحديثة، لكنهم ابتعدوا عن تجربة الحرب وفظائعها التي لم يعرفها الغرب في داخله منذ ستين سنة، ولم تعد تكلفتها البشرية والمادية مصدر قلق بالنسبة إليهم. المفارقة الكبرى أن موجة الإرهاب الجديد تنطلق من المنطق نفسه (استخدام تقنية التدمير الأعمى بأقل تكلفة في مواجهة سكان عزل لتدمير شبكات الحياة ومنافذ التواصل البشري)، ومن هنا الإشكالات الأخلاقية والقانونية التي تطرحها «حروب الإرهاب» الأخيرة التي تنتصر فيها عملياً الحركات الراديكالية المتطرفة بفرض وسائلها العدمية في المواجهة، في حين يدفع الثمن السكان العزل والمعارضات السياسية المعتدلة (كما حدث في سوريا والعراق). وهكذا تتحول السياسة من مفهومها الحيوي (حماية الناس وتحصين المواطن من العنف) إلى نمط من آلة القتل أو ما دعاه الفيلسوف الكاميروني «أشيل امبمبه» بـ«السياسة الجثثية» necropolitic (من الجثة) التي تعني القضاء على الحدود المألوفة بين منطق الحرب ومنطق السياسة. ------------- *أكاديمي موريتاني