ماتت البشرية والضمير الإنساني في حلب وغيرها من المدن التي وصفها الرئيس الفرنسي«بالشهيدة»، وثبت للجميع وخاصة الضحايا الأبرياء - خواء شعارات وقيم الدول الكبرى وتخليهم عن مبادئ حقوق الإنسان التي يتشدقون بها ومحاضراتهم مع دول إقليمية عن القيم ونصرة المستضعفين والحرب الانتقائية على الإرهاب! وصف أحد المواطنين في حلب أهوال المأساة التي تتعرض لها المدينة من قصف وحرب إبادة وحصار وتجويع وتشريد وتهجير بمشهد من يوم القيامة. ولكن الخطر الإستراتيجي مما يجري هو إضعاف النظام الأمني العربي وإنهاك الأنظمة العربية المركزية وتغيير موازين القوى من قوى دولية وإقليمية. وكذلك تغيير التركيبة السكانية والمذهبية على يد النظام وحلفاء النظام-روسيا والنظام وإيران وبدعم من المليشيات الطائفية من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان-بحجة محاربة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية من صنف ومذهب واحد، ولا مانع إذا ارتكب من يدعي محاربة الإرهاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وحروب إبادة وتهجير وتشريد! تابعنا بألم وحسرة خلال الأسابيع الماضية مشاهد نضحت بوحشيتها وفظائعها ورأينا التصفية والقتل وحتى الحرق لمواطنين أحياء شرق حلب التي تساقطت من يد المعارضة العسكرية-بعد حصار وقصف محموم لأشهر-وارتكاب مجازر وحرب إبادة فضحتها صور وتعليقات على وسائط التواصل الاجتماعي..والخشية أن تتكرر هذه المشاهد المؤلمة في مدن أخرى ودول تُستهدف ضمن المشاريع المتقاطعة. وهكذا تسقط أكبر مدينة في سوريا، لتنضم لمدن سوريا الكبيرة الأخرى، التي أصبحت بقبضة النظام الذي فقد سيادته وقراره، وأصبح أداة طيعة ينفذ مخططاً واضحاً لخدمة مشروعي روسيا وعودتها المتوحشة للشرق الأوسط لتصفية حسابات مع الغرب من أوروبا للمتوسط. وإيران التي تتحول للقوة الإقليمية الرئيسية في المنطقة ضمن مشروع الهيمنة، الذي يهدد أمن واستقرار العرب-لكن لا يتجاوز الخط الأحمر ولا يعرض أمن واستقرار إسرائيل المستفيد الأول من حالة الفوضى التي تفتك بالأمن القومي العربي. كما تابعنا مباشرة فاصل الردح والتلاسن بين المندوبين الدائمين للدول دائمة العضوية وخاصة بين السفير الروسي والسفيرة الأميركية حول الوحشية والعنف والقتل في حلب. وتدليس والكذب العلني للسفير السوري. وتابعنا سقوط الجميع في الإفلاس الأخلاقي والعجز العربي عن إدارة الأزمة، وتواطؤ الكبار وعجز الأمم المتحدة ومؤسساتها ومبعوثيها عن فعل شيء سوى التنديد والاستنكار والقلق من الأمين العام المودع، والذي وصف ما يجري في حلب بأنه جحيم. توقفت طويلاً عند تبرير أوباما في آخر مؤتمر صحفي له قبل أيام بأنه بذل ما بوسعه لوقف مأساة سوريا، وأن الأولوية له هي مصلحة أميركا، ولا حلاً سهلاً في سوريا غير التدخل العسكري الشامل، وهذا غير وارد لأن أوباما انتُخب لإنهاء الحروب وليس لبدء حروب جديدة، كما أن عقيدته تتعارض مع شن حروب في الشرق الأوسط الذي أنهك أميركا بشرياً ومالياً.. ولكن ما تجاهله الرئيس الأميركي أن مأساة سوريا لم تكن لتصل لهذا الوضع المأساوي لو تدخل مبكراً..لقد مضى 1750 يوماً منذ أن أكد أوباما أن أيام الأسد معدودة وعليه أن يرحل، ومضت 40 شهراً منذ تراجعه عن توجيه ضربات للنظام في صيف 2013 بعدما تجاوز خطوط أوباما الحمراء باستخدام الكيماوي ضد شعبه في غوطتي دمشق وقتل 1400 مدني برئ بينهم 400 طفل، ولم يكن حينها قد ظهرت «داعش» وروسيا وإيران ومليشياتها الطائفيةّ! لكن أوباما اكتفى أوباما بتحميل النظام وحليفيه روسيا وإيران بارتكاب الفظائع في سوريا وأيديهم جميعا ملطخة بالدماء، بينما يرى ترامب أن على دول الخليج التي لا تملك سوى المال بناء مناطق آمنة لأن الوضع محزن للغاية. ونحن لا نملك المال ومدينين بعشرين تريليون دولار مقاربة ساذجة، تفتقد للعمق الإستراتيجي أو الحل الشامل لأزمة سوريا التي وصفها أوباما المغادر خلال شهر-أنها الأزمة والقضية الأصعب التي تعامل معها كرئيس للولايات المتحدة الأميركية. على الرغم من نفي الرئيس الإيراني حسن روحاني وجود هلال شيعي يراه الجميع داعياً للوحدة بين المسلمين، ومنتقداً التطرف في المذهبين الشيعي والسني، وذلك في مؤتمر دولي عن الوحدة الإسلامية في طهران-نسف الجنرال حسين سلامي نائب رئيس الحرس الثوري الإيراني تلك الادعاءات التي تخالف الواقع لمعاش لمشروع وتدخلات إيران في الدول العربية-وآخر تلك الفصول دور إيران في حلب ومدن سوريا والعراق وبصمات إيران في لبنان والخليج واليمن. علق حسين سلامي بكل فوقية واستفزاز: «حان وقت الفتوحات الإسلامية بعد تحرير حلب ستحقق البحرين أمانيها، وسوف يذوق سكان الموصل طعم الانتصار». وقبله صرح -بكل عنجهية وغرور-مستشار المرشد الأعلى «يحيى صفوي» بأن إيران تسعي لتشكيل حكومة إسلامية عالمية مركزها إيران نتيجة للتراجع الأميركي. هذا كله يُثبت مشروع الهيمنة والتدخل في شؤون المنطقة وتصدير الطائفية والمليشيات التي تعززها وتنفخ فيها، ويكشف نهج إيران الذي يؤكده الحرس الثوري بدوره ومهامه وتنقلات قاسم سليماني قائد «فيلق القدس»و في الحرس الثوري الذي شُوهد يجول في أحياء حلب بعد سقوط أحيائها الشرقية. ولم يعد مقنعاً النفي الدائم لرموز القيادة السياسية من عدم التدخل في شؤون الدول العربية. لكن أخطر متغير يتمخض من الأزمات المتشعبة والمتداخلة والفوضى وتشابك التحالفات والمشاريع واستمرار غياب المشروع العربي الجامع-هو مشروع فرض الأمر الواقع وتغير جيو-بولتيكية الشرق الأوسط والمشرق العربي. وتغيير موازين القوى وتقدم المشروع الروسي-الإيراني وحلفائهم على حساب الأمن القومي العربي وأمنه واستقراره ومستقبله..وهذا بحاجة لتفصيل أكثر في مقالات قادمة. *أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت