أعلنت الحكومة الإسرائيلية مؤخراً رفضها للمبادرة الفرنسية الرامية لتنظيم مؤتمر دولي يهدف إلى إعادة إطلاق مسار عملية السلام في الشرق الأوسط. وليست في هذا الرفض طبعاً مفاجأة لأحد، بل إن القادة الفرنسيين أنفسهم كانوا يتحدثون في جلساتهم الخاصة بنبرة من الشك حول ضعف فرصهم في استضافة هذا المؤتمر. وكانت فرنسا بكل بساطة تروم إعادة طرح الملف الفلسطيني على الأجندة السياسية والدبلوماسية الدولية. وترى إسرائيل أن النزاعات الكثيرة المندلعة الآن في منطقة الشرق الأوسط تشغل اهتمام المجتمع الدولي وتوجه انتباهه بعيداً عن المسألة الفلسطينية. فثمة الحرب الطاحنة الجارية في سورية، بما سجلته من مئات آلاف القتلي وملايين النازحين واللاجئين، وكذلك الأزمة العراقية، والأزمة الليبية، والأزمة اليمنية، ومحاولات زعزعة الاستقرار في مصر، وكل هذا يدفع بالقضية الفلسطينية خارج دائرة الضوء وبعيداً عن بؤرة الاهتمام الإعلامي والسياسي الدولي الراهن. ومع ذلك يبقى الملف الفلسطيني قنبلة موقوتة على المستويين الدبلوماسي والاستراتيجي، وهو القضية المركزية الأساسية في المنطقة. وما زالت الحكومة الإسرائيلية، المستشعرة لفائض قوّتها، تضع سداً مستحكماً أمام تحقيق أي تقدم في مسار التسوية، زاعمة أنه لم يعد ممكناً من الناحية العملية الحديث عن «مسار عملية سلام». والنتيجة أن العملية متوقفة، ولا تقدمَ محتملاً في الأفق، ولم يبدُ أمل السلام يوماً أبعد منالاً منه الآن. بل إنه يمكننا، في ضوء حالة الانسداد المطبقة الراهنة، أن نتساءل عما إن كان حل الدولتين، وهو الهدف الرسمي المعلن للمجتمع الدولي، ما زال قابلاً للتحقيق، بالنظر إلى حالة التآكل والقضم المتواصل للأراضي الفلسطينية! وبعبارة أخرى فالسؤال: هل ما زال ممكناً حقاً الحديث عن إنشاء دولة فلسطينية في ظل عدد المستوطنات الموجودة، ومواقعها الجغرافية في عمق الأراضي الفلسطينية؟ وحتى عندما طلب الرئيس باراك أوباما نفسه تجميد الاستيطان، ظلت عملية التوسع في بناء المستوطنات مستمرة على قدم وساق، دون أن تترتب على ذلك أية ضغوط مؤثرة أو تداعيات سلبية على إسرائيل. بل على العكس من ذلك، استمر حجم الدعم العسكري الذي تتلقاه إسرائيل في كل سنة من الولايات المتحدة يتنامى باستمرار، وزاد من ثلاثة مليارات إلى أربعة مليارات في العام. والحاصل أن صراع الإرادات بين طرفي الثنائي أوباما ونتنياهو قد خرج منه هذا الأخير فائزاً في النهاية. وفوق ذلك تنفست أيضاً حكومة نتنياهو الصعداء الآن بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، وخاصة أنه يعِدها بدعم كامل وغير مشروط (مع أنه لم يكن لديها في الحقيقة ما تخشاه أيضاً لو كانت هيلاري كلينتون هي التي فازت). ولذا «فلماذا إذن تقديم تنازلات والحالة هذه؟»، يتساءل القادة الإسرائيليون، وذلك لأن استمرار الوضع الراهن على حاله لا يوحي بأنه يمكن أن يتكشّف في النهاية عن أي عقاب للدولة العبرية. ومع ذلك فلا أحد يعترف أبداً بشرعية الاحتلال الإسرائيلي، وإن كان هذا الاحتلال يبقى أيضاً دون عقاب كما لو كان القانون الدولي غير قابل للتطبيق والنفاذ في هذه الحالة. ويجد محمود عباس، الذي انتخب في يناير 2015 لولاية من خمسة أعوام، نفسه وقد باتت شرعيته موضع تساؤل متنامٍ مع كل يوم يمر، وذلك لأن طريق المفاوضات الذي اتبعه، وقد شجعته الدول الغربية على المضيّ فيه، لا يتكشّف عن أية نتائج ملموسة. والإسرائيليون يرفضون كل الوساطات الدولية، زاعمين أن عملية السلام ينبغي أن تكون موضوع تفاوض مباشر بين الطرفين المتصارعين، دون أي تدخل من أطراف أخرى خارجية. ولكن الاختلال الكبير في موازين القوى بين الإسرائيليين والفلسطينيين لا يسمح بأية عملية تفاوض حقيقية وعادلة. وذلك ببساطة لأن إسرائيل لا تقدم أية تنازلات، ولا تظهر حتى الرغبة الجادة في التفاوض وما يترتب على ذلك من نوايا وسلوك. والحقيقة أن أي تقدم لم يسجل في مسار عملية السلام، منذ اتفاقات أوسلو، الموقعة في 1993، قبل ثلاثة وعشرين عاماً. وقد شهدت حالة الفلسطينيين خلال هذه الفترة تراجعاً وترديّاً متفاقمين وذلك لاستمرار أعمال الاستيطان بشكل حثيث على حساب الأراضي الفلسطينية. ولكن إن كانت إسرائيل تستشعر في المدى القريب حالة من الرضا والاطمئنان تجاه الحالة الراهنة -غياب المسار التفاوضي من الأساس، على رغم التعبير الزائف أحياناً عن الاستعداد للتفاوض (فقد ظل بعض القادة الإسرائيليين يعلنون عن استعدادهم للتفاوض إلى أن لم يبقَ شيء يمكن التفاوض بشأنه)- إلا أن النتائج في المدى البعيد لا يمكن أن تكون إلا كارثية، ولن تقود إلا إلى مزيد من الإحباط والعنف في المستقبل. وسيُتهم الغربيون خاصة بأن لديهم خطاباً مزدوجاً أو ازدواجية معايير حول الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. فهم يزعمون الترويج لهذه القيم والدفاع عنها في حين يقبلون أن تُركل تحت الأقدام في فلسطين. والحال أن هذا هو حاصل الحماية المطلقة -العسكرية، والقانونية، والاستراتيجية- التي تشمل بها الولايات المتحدة إسرائيل، وهي ما يدفع ذلك البلد إلى عدم احترام القانون الدولي. وهنا المفارقة السياسية والتاريخية، ففي حين كان القرن العشرون قرن تحرر الشعوب ونزع الاستعمار، فكيف يمكن أن يستمر شعب في ممارسة الاحتلال على شعب آخر في القرن الحادي والعشرين؟