لعل الانتخابات النمساوية الأخيرة، التي مني فيها مرشح اليمين المتطرف بهزيمة واضحة، تؤكد شيئاً واحداً: أنه بات على الدول الأوروبية الآن أن تجد لها مكاناً بين قطبين اثنين: القطب الناطق بالإنجليزية، الذي أضحت فيه الشعبوية القومية هي القاعدة، والقطب الناطق بالألمانية، الذي تَعتبر فيه أغلبية من الناس ذلك أمراً مخيفاً. وفي هذه الانتخابات النمساوية هناك جملة من الأسباب التي أدت إلى خسارة نوربرت هوفر، مرشح «حزب الحرية»، أمام ألكسندر فان دير بيلن، الرئيس السابق لـ«حزب الخضر»، للمرة الثانية بعد أن نجح في الطعن في نتيجة الجولة السابقة وحصل على جولة إعادة. فهوفر نفسه وزعيم «حزب الحرية» هاينز كريستن ستراتش عزيا سبب الهزيمة لقرار زعيم «حزب الشعب» المحسوب على يمين الوسط، رينهولد ميترلينر، دعم فان دير بيلن خلال المراحل الأخيرة من السباق، ما حدا بالجناح اليميني المتطرف للقول إن المؤسسة السياسية قد تحالفت ضده. والواقع أنه من الصعب الجزم بشأن دعم المؤسسة السياسية لفان دير بيلن، بالنظر إلى أن مرشحيْ يسار الوسط ويمين الوسط الرئيسيين كان قد خسرا خلال الجولة الأولى التي قدما فيها أداءً باهتاً. وبوسع المرء أن يجادل هنا بأنه من الممكن أيضاً أن النمساويين اللطفاء، الذين تعبوا من حملة انتخابية طويلة، قد رغبوا عن هوفر البالغ 45 عاماً فقط بسبب تهجماته الشخصية على فان دير بيلن البالغ 72 عاماً، الذي وصفه بـ«الأستاذ شارد الذهن» والجاسوس الشيوعي الذي عمل لصالح السوفييت زمن الحرب الباردة! وبوسع المرء أن يشير هنا أيضاً إلى أن أزمة اللاجئين، التي دفعت العديد من النمساويين إلى أحضان «حزب الحرية»، قد خفت حدّتها هذا العام. ففي الجولة السابقة، كانت الأزمة ما تزال ماثلة في أذهان الناخبين في مايو عندما لم يتجاوز فان دير بيلن غريمه هوفر سوى بـ31 ألف صوت، ولكنها اليوم لم تعد في مقدمة الأشياء التي تشغل بالهم. وكل هذه العوامل ربما ساهمت في هزيمة هوفر، ولكنها لا تفسر أيضاً بشكل كامل لماذا ازداد هامش فوز فان دير بيلن بشكل كبير في أقل من سبعة أشهر. والحال أن التفسير الأفضل للأسباب التي جعلت الوقت الإضافي الذي حاول هوفر كسبه لا يصبّ في صالحه، في نهاية المطاف، ليست له أي علاقة بالسياسة الداخلية النمساوية، وإنما بشيء حدث في بلد آخر بين جولة مايو وجولة نهاية الأسبوع الماضي: إنه «البريكسيت»، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فقبل تصويت بريطانيا لصالح «الخروج» في استفتاء يونيو الماضي، كان 31 في المئة من النمساويين يؤيدون انسحاب بلدهم من الاتحاد الأوروبي، وفق الجمعية النمساوية للسياسة الأوروبية. ولكن بعد التصويت لصالح الانسحاب مباشرة، انخفضت تلك النسبة إلى 23 في المئة في حين ارتفعت نسبة النمساويين المؤيدين للوحدة الأوروبية من 60 إلى 61 في المئة. والفتور في المشاعر الماوئة للاتحاد الأوروبي هو السمة المشتركة التي تميز استطلاعات الرأي في العديد من البلدان الأوروبية عقب «البريكسيت». ولئن كانت استطلاعات الرأي قد باتت أقل مصداقية بعد تنبؤاتها الخاطئة والمحرجة العديدة خلال السنوات الأخيرة الماضية، فإن نتيجة الانتخابات النمساوية تمثل مؤشراً موثوقاً أكثر على أن «البريكسيت» أثار قلق الأوروبيين أكثر مما ألهمهم. ذلك أن فان دير بيلن كان قد جعل من التمسك بعضوية الاتحاد الأوروبي، وهي النزعة القوية تقليدياً في بلد حيث قيادة السيارة لثلاث ساعات في أي اتجاه تأخذ المسافر إلى خارج الحدود، الموضوع الرئيسي لحملته الجديدة. وعلى غرار أنصار «البريكسيت»، فقد وصفها هوفر بحملة التخويف، إلا أن النمساويين استمعوا إليه باعتباره صوت العقل. وبالنظر إلى التداعيات الداخلية التي جرّها قرار «البريكسيت» على بريطانيا وتداعياته الفورية على دور البلاد في العالم، فلاشك أن الخروج البريطاني سيظل يمثل أيضاً نموذجاً سلبياً خلال الانتخابات العامة الهولندية في مايو، والانتخابات الرئاسية الفرنسية في أبريل من العام المقبل. واليوم، يسعى القوميون عبر القارة وراء حلم اتباع الخطوة الجريئة التي أقدمت عليها بريطانيا، غير أن الأمر قد يستغرق سنوات قبل أن يثمر الانسحاب البريطاني أي نتائج جديرة بالتباهي، في حين أن النتائج السلبية كانت فورية. ويمكن القول إن بريطانيا ضحّت بنفسها من أجل وسطيي القارة ومعتدليها، الذين باتوا يستطيعون الآن الإشارة إليها وهز رأسهم استنكاراً، مثلما يفعل فان دير بيلن. وفي المقابل، تجرّ ألمانيا، التي لا يحتمل أن يفوز فيها أي حزب شعبوي قومي في انتخابات العام المقبل، القارة في الاتجاه المعاكس. واليوم انضمت إليها النمسا: وإذا كان «حزب الحرية» ما زال يحظى ببعض الشعبية، فإن انتكاسة هوفر لن تؤدي إلى أداء قوي للحزب في انتخابات برلمانية مبكرة ممكنة العام المقبل. وخلاصة القول إن صوت الاحتجاج والتشويش وانبعاث الروح القومية يتحدث الإنجليزية هذه الأيام، في حين أن صوت الاعتدال والاستقرار والوحدة يتحدث الألمانية. إنه خط المعركة الأوضح منذ عقود، وربما منذ الحرب العالمية الثانية، عندما كانت اللغات تلعب أدواراً عكسية في القارة الأوروبية وفي العالم أيضاً. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»