الآن وقد انتخب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، فستصبح «البسكويتية» ملكاً يديه. و«البسكويتية» هي الاسم المستعار للحقيبة التي تحمل التعليمات السرية بإصدار الأوامر الرئاسية لإطلاق الصواريخ الاستراتيجية بعيدة المدى التي تحمل رؤوساً نووية. ويقوم الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما بتسليم الحقيبة يداً بيد إلى الرئيس الجديد، وتتم عملية التسلّم والتسليم ليس بعد إعلان نتائج الانتخابات، بل عشية انتهاء اليوم الأخير من فترة الرئيس منتهي الولاية وبداية فترة الرئيس الجديد. وبموجب إجراءات استخدام «البسكويتية»، فإن الرئيس الأميركي يتمتع بصلاحية مطلقة لإصدار الأوامر بشنّ حرب نووية، أي أنه ليس مضطراً للعودة إلى أي سلطة أخرى، أو حتى إلى أي جهة استشارية. وخلال عشر دقائق على الأكثر من إصدار الأمر بشنّ الحرب، تطلق الصواريخ النووية من مرابضها نحو أهدافها المحددة مسبقاً. ويبلغ عددها 2000 صاروخ. وهذا يعني أن رجلاً واحداً، هو الرئيس ترامب هذه المرة، قادر خلال عشر دقائق على قتل الملايين من الناس إذا ما شعر -ولو بطريق الخطأ- بأن الولايات المتحدة في خطر. وقد حدث هذا الخطأ في السابق، وكاد ردّ الفعل يطلق العنان لحرب نووية، لو لم يتدارك كبار المسؤولين الأمر، خلافاً للدستور، ليوقفوا الأمر بإطلاق الصواريخ قبل دقائق قليلة فقط من الموعد المحدد لها. ولكن إذا كان القلق هذه المرة يتمحور حول شخصية الرئيس ترامب المعروف بردّات فعله المتسرعة، فإن ما يخفف من هذا القلق هو حسن علاقاته الشخصية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فالبعد النووي لأي صراع أميركي محصور في الصراع مع الاتحاد الروسي. وهو صراع مستبعد الآن في ضوء العلاقات الودية بين ترامب وبوتين، التي لا سابق لها بين أي رئيسين أميركي وروسي منذ انتهاء الحرب الباردة. ومع ذلك، فقد سبق للرئيس ترامب أن أعلن خلال الحملة الانتخابية التي أوصلته إلى البيت الأبيض أنه لن يكون سعيداً أبداً بالضغط على الزر النووي، ولكنه في الوقت ذاته لا يستبعد القيام بهذا العمل إذا ما وجد نفسه مضطراً إليه. ومن هنا السؤال: ما مواصفات وظروف الاضطرار؟.. وهل له وحده حق تقرير ما إذا كان الأمر يستدعي استعمال السلاح النووي؟ هذا السؤال طُرح مراراً عديدة في السابق، وعندما مُنح الرئيس باراك أوباما جائزة نوبل للسلام، توقع كثيرون داخل الولايات المتحدة وخارجها أن يبادر بإعادة النظر في النظام الذي يحدد صلاحية استخدام «البسكويتية». غير أن أوباما لم يفعل شيئاً من ذلك، وأبقى الأمر على ما هو عليه منذ أيام الرئيس جون كيندي. يومها، وأثناء أزمة الصراع مع الاتحاد السوفييتي السابق (أزمة خليج الخنازير في كوبا) كاد الرئيس كيندي يضغط على الزر النووي لو لم يستجب الرئيس خروتشوف لمساعي التسوية ويسحب الصواريخ الروسية من كوبا. صحيح أن شخصية ترامب تختلف عن شخصية كيندي، ولكن صحيح أيضاً أن العلاقات بين واشنطن وموسكو في ظل الرئيسين بوتين وترامب، هي غير العلاقات بين البيت الأبيض والكرملين في ظل الرئيسين كيندي وخروتشوف، ثم إن كوبا اليوم ليست كوبا بالأمس، فقد استأنفت واشنطن علاقاتها الدبلوماسية مع هافانا. ويبقى السؤال الذي يبعث على القلق. وهو ماذا سيقع إذا لم يستمر شهر العسل طويلاً بين بوتين وترامب؟.. ماذا إذا اكتشف ترامب أن الكلام على المنصات الشعبية أثناء الحملة الانتخابية لا يتوافق مع السياسة العليا لأميركا بصفتها زعيمة العالم الحر والممسكة بالحلف الأطلسي، والمؤتمنة على حماية حلفائها في أوروبا وفي الشرق الأقصى؟.. وأي خيبة أمل سيصاب بها بوتين؟ وأي رد فعل سيعبّر عن خيبة أمله هذه؟.. وكيف سيكون ردّ فعل ترامب؟ إن أسوأ ردات الفعل هي التي تطلقها خيبات الأمل. فليس من المستبعد أن يواجه ترامب خيبات أمل من الموقف الروسي في أوكرانيا.. وامتداداً في بقية دول أوروبا الشرقية ودول بحر البلطيق الثلاث التي انضمت إلى الحلف الأطلسي لتحتمي به. وليس من المستبعد أيضاً أن يواجه بوتين خيبات أمل من موقف الرئيس الأميركي الجديد إذا ما وجد ترامب نفسه محكوماً بمعادلة التحالف مع الاتحاد الأوروبي من جهة، ومع اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وإندونيسيا من جهة ثانية. لقد رفع الرئيس ترامب شعاراً لحملته الانتخابية بأن تعود «أميركا عظيمة مرة أخرى»، فهل تكون عظمتها ببناء جدار فاصل مع المكسيك والانفتاح على روسيا البوتينية؟ لم يشهد التاريخ الأميركي مظاهرات في العديد من المدن ضد رئيس منتخب لم يدخل بعد البيت الأبيض.. ولم يتسلم «البسكويتية» بصفته رئيساً أعلى للقوات المسلحة الأميركية.. كما حدث مع ترامب. فهل تشكل ردات الفعل هذه ضغوطاً معنوية عليه للالتفاف على الشعارات التي رفعها بما فيها شعار الودّ، أو التودد لبوتين؟ وإذا حدث ذلك، فأي رد فعل سيكون للرئيس الروسي؟