إذا توقفت للحظات، واستنشقت نفساً عميقاً، ففي الغالب ستمتلئ رئتيك بهواء ملوث، وبغض النظر عن أي مكان كنت فيه على كوكب الأرض. فعلى مستوى العالم، يعيش تسعة من كل عشرة من أفراد الجنس البشري، في مكان تتخطى نسبة التلوث في هوائه، الحدود القصوى للتلوث المحددة من قبل منظمة الصحة العالمية. وللأسف، يتزايد هذا الوضع سوءاً بمرور الوقت، عاماً بعد عام. ففي الفترة ما بين عامي 2008 و2013، ارتفعت مستويات التلوث بنسبة 8 في المئة داخل مدن العالم التي تتابع مستويات التلوث في هوائها بشكل منتظم، وهو التلوث الذي توجه له أصابع الاتهام، خلف وفاة 6.5 مليون شخص سنوياً، سواء من سرطان الرئة، أو الانسداد الرئوي المزمن، أو أمراض القلب والشرايين، مثل الذبحة الصدرية والسكتة الدماغية. ولا تقتصر التبعات الفادحة لتلوث الهواء على صحة الإنسان فقط، وإنما تمتد إلى مناخ الكوكب، وهو ما يعود ليؤثر سلباً هو الآخر على صحة الإنسان، في دائرة خبيثة متزايدة من الضرر المتصاعد. فمن المعروف والثابت أن التغيرات المناخية تضعضع من، وتخلخل المتطلبات الأساسية للصحة الجيدة، مثل مياه الشرب النقية، والمسكن الآمن، والأمن الغذائي. ففي ظل غياب بعض هذه المتطلبات، يفقد عشرات الآلاف حياتهم كل عام، حيث تُقدر منظمة الصحة العالمية أنه خلال العقدين الممتدين بين عامي 2030 و2050، سيلقى 250 ألف شخص حتفهم، كل عام، بسبب تبعات التغير المناخي، مثل سوء التغذية، والإجهاد الحراري، وزيادة معدلات أمراض الإسهال، واتساع مدى انتشار طفيلي الملاريا. كما رجحت بعض الدراسات أن التغيرات الطفيفة في درجة الحرارة، أو في كمية سقوط الأمطار، تقترن أحياناً بزيادة ملحوظة في جرائم الاعتداء البدني، والاغتصاب، والقتل، بالإضافة إلى زيادة مماثلة في معدلات النزاعات المسلحة والصراعات العسكرية، ولذا يحذر البعض من أن في ظل التغيرات المناخية المتوقعة، يتوقع أيضاً أن يصبح العالم مكاناً أكثر عنفاً ودموية. ومما يزيد الطين بلة، أن في العديد من الدول النامية والفقيرة، تعاني البنية التحتية للرعاية الصحية من مستشفيات وعيادات وصيدليات، من حالة من الضعف والهوان، مما يجعلها عرضة نفسها لتبعات التغيرات، بسبب هشاشتها وعدم قدرتها ذاتها على الصمود أمام موجات الحرارة، أو الرياح العاتية، أو الفيضانات، أو حتى نوبات الجفاف، وهي الظروف المناخية القاسية المتوقع زيادة معدلاتها مع تفاقم ظاهرة الدفء الحراري والتغير المناخي. هذه العلاقة الحميمة بين صحة الإنسان وصحة الكوكب، أكدتها وأظهرتها مراحل متعددة من تطور التاريخ البشري الحديث، فلطالما وفر القطاع الصحي أفضل الأدلة، وأقوى الحجج، على التأثير السلبي لتدهور صحة الكوكب على صحة الإنسان. ففي القرن التاسع عشر مثلاً، قدم القطاع الصحي الأدلة والبراهين على أن تلوث مياه الشرب، يساهم بجزء كبير في انتشار الأمراض وفي زيادة معدلات الوفيات، مما حفز الحكومات والدول على الاستثمار في شبكات توصيل مياه الشرب النظيفة للمنازل والقرى، وبناء نظم صرف صحي حديثة وفعالة، وهو ما أدى بدوره إلى الحد من انتشار الأمراض، ومنع في الكثير من الحالات وقوع الأوبئة واسعة النطاق. وفي القرن العشرين، قدم القطاع الصحي مرة أخرى الأدلة والبراهين على أن تلوث الهواء، يرتبط بشكل كبير بزيادة معدلات الإصابة بعدد من الأمراض، وبمعدلات الوفيات الناتجة عنها. وهي الأدلة والبراهين التي حفزت ودعمت الاتجاه الحالي الرامي للاستثمار في أشكال الطاقة النظيفة والمتجددة، وفي نظم النقل والمواصلات المستدامة، وحتى في أساسيات علم التخطيط الحضري، بهدف تخفيف وقع وتأثير التعرض للانبعاثات الضارة لقاطني المدن والأحياء السكنية. وعلى ما يبدو أن هناك ضوءاً في آخر النفق، بعد أن تصاعدت الآمال في أن التغير المناخي - أو بالأحرى الأسباب المؤدية إليه- قد بدأ يدخل في عملية تصحيح مسار. هذه الآمال علقت على «اتفاق باريس» الذي اعتمد العام الماضي من قبل 190 دولة، وتم الاتفاق فيه على الإبقاء على الزيادة المسموح بها في درجة حرارة الكوكب، خلال القرن الحالي، عند مستوى أقل من درجتين مئويتين. والآن، ومع التركيز على التبعات الصحية السلبية للتدهور البيئي، والمرتبطة بضعف ومرض كوكب الأرض بوجه عام، وهي التبعات التي يمكن قياسها وتقدير تكلفتها، أصبح من الجلي للعيان إلحاح الحالة، وشدة لزوم توفير المصادر، وبذل الجهود الرامية لتحسين صحة الكوكب. هذا إذا ما كان لنا أن نحسن بشكل ملحوظ من الحالة الصحية لأفراد الجنس البشري، وأن نمنع الوفيات غير الضرورية بينهم.