بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتصار دونالد ترامب في أميركا وصعود الشعبوية القومية في أنحاء أوروبا، أصبح من الواجب على أحزاب الوسط السياسي أن تحدد مصادر الاستياء الشعبي ضد الصفوة. فهذا الاستياء هو السبب في المفاجآت الانتخابية وفي عدم الثقة بالإعلام. وتحديد مصادر الاستياء ومعالجتها قد يكون محورياً في استقرار المستقبل. فهناك ثلاثة أنواع واضحة من الاستياء ضد الصفوة. أحدها اقتصادي ويتعلق بعدم المساواة في الدخل. لكن السياسيين الشعبويين قد يفشلون إذا اقتصر دورهم على التنفيس عن الغضب الاقتصادي. والنوع الثاني يتعلق بمفهوم الصفوة باعتبارها شبكة مغلقة على نفسها عمادها الأصول الطبقية والعلاقات وليس التعليم والإنجاز. فليس بوسع المرء أن يدخل دائرة الصفوة حتى لو كان ذكياً وحصل على أفضل تعليم ما لم يكن جزءاً منها أصلاً. والنوع الثالث هو اعتبار أن الصفوة تعترض سبيل الهوية القومية. وهذا الانتقاد للصفوة يتصل بالجذور الاقتصادية للشعبوية والحواجز الاقتصادية غير المرئية أمام الحراك الاجتماعي. ويوضح عمل صدر في الآونة الأخيرة لزولت دارفاس وزملائه في مركز بروجيل البحثي في بروكسل، أن نسبة التصويت تأييداً لمغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي كانت أعلى في المناطق التي يتزايد فيها عدم المساواة في الدخول حتى مع التحكم في العوامل السكانية والاجتماعية الاقتصادية. ومن السهل ملاحظة أنه ليس الفقر بل قرب الثروة التي لا يمكن الحصول عليها، هو ما يجعل الفقراء غاضبين. ويجادل دارفاس وزملاؤه في مركز بروجيل بأن النمو الذي يشمل الجميع والإصلاح الذي يدعم الحراك الاجتماعي، يمثلان وسائل جيدة للتغلب على الشعبويين. ونشر سيث تسيمرمان من جامعة شيكاجو ورقة بحثية في الأيام القليلة الماضية تشير إلى أن تعلم المرء في تشيلي بجامعة من جامعات الصفوة يعزز فرصه في الصعود إلى أدوار القيادة في الشركات الكبيرة، لكن هذا لا يحدث إلا إذا تلقى تعليمه في مدرسة ثانوية خاصة مقتصرة على بعض الناس قبل الجامعة. ومن السهل أن نرى انطباق هذا المبدأ في أوروبا والولايات المتحدة. صحيح أن الناس من أصحاب الأصول الاجتماعية والاقتصادية المتواضعة يستفيدون من التعليم الجيد، لكنهم لا يصعدون كقاعدة عامة إلى مستوى نظرائهم في الطبقات المميزة. ومن يصوتون للشعبويين يدركون أن السقف الذي يفصل بينهم وبين الطبقات الاجتماعية الأعلى ليس اقتصادياً خالصاً وليس قائماً على التميز في الصفات، لكنه قائم على أساس مَن هم داخل الطبقة ومن هم خارجها. ومنها جاءت الشعارات الساخرة مثل «تجفيف المستنقع» و«من يحتاج إلى خبراء؟». فهؤلاء الموجودون وسط حلقة الصفوة الثقافية والأكاديمية والسياسية والإعلامية، يختلطون بالأثرياء وقيادات الشركات. ودوائرهم الحصرية ينظر إليها باعتبارها مغلقة عليهم وذاتية التوالد، وهذا يغضب المرشحين الشعبويين وفرق عملهم أكثر مما يغضب ناخبيهم الذين لا يعرفون هذه الطبقات ولا يهتمون بالدخول فيها. وهذا يقودنا مباشرة إلى النوع الثالث من الاستياء المتعلق بالهوية القومية والخاص بالقسمة بين «الشعب في مقابل الصفوة». فقد قال جيمي اكيسون زعيم الحزب الديمقراطي السويدي الشعبوي مؤخراً إن نجاح الحركات الشعبوية «لا يتعلق أساساً بالمال، بل بالقيم وبالطريقة التي نستطيع بها إبقاء المجتمعات متماسكة». وتتعلق القيم التي يتحدث عنها اكيسون بالدولة الأمة والهوية القومية. وحزبه، مثل الحركات المشابهة في مناطق أخرى، يشكك في وطنية الصفوة. ولهزيمة التمرد الشعبوي يتعين على أحزاب الوسط التركيز على مصادر الاستياء الثلاثة. فمجرد الاقتصار على الحديث عن عدم المساواة الاقتصادية يبدو كما لو أنه خطاب استعلائي. والأصعب هو معالجة العنصرين الآخرين من الاستياء المعادي للصفوة. فرغم أن ترامب ينتمي إلى الصفوة في كل شيء، فهو يبدو كما لو أنه من خارج دوائرها. وفي السياق الأوروبي تتعين دعوة الشعبويين إلى المشاركة في الحكم كما فعلت رئيسة الوزراء البريطانية. وقد يكون من صالح أحزاب الوسط في دول اسكندنافيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا أن تدعو ممثلي التيارات الشعبوية إلى المشاركة في الحكم. أما عن القيم القومية فربما يكون هذا أصعب المسائل التي تحتاج علاجاً لدى الوسط. ففرض حماية أقوى على الحدود وشن حملات ضد الأقليات العرقية.. يتعارض مع قيمهم الليبرالية. لكن يستطيع يمين الوسط لعب دور في هذا المجال، كما أثبت فرانسوا فيون في فرنسا. وتقديم خطط محددة لاندماج المهاجرين شبيهة بتلك التي أقرتها ألمانيا هذا العام، يساعد أيضاً في هذا الصدد. ويتعين تثقيف الناخبين بشأن القواعد التي يتقيد بها الوافدون الجدد ويجب أن يشعروا أن المهاجرين ليسوا مفضلين عليهم. إن تجاهل الموجة الشعبوية لن يؤدي إلا إلى إقناع الناخبين الغاضبين باحتقار الصفوة لهم. والشعبويون لا يمكن التخلص منهم، لكن يمكن التكيف معهم. والسعي للتواصل مع هؤلاء الناخبين ومع من يمثلونهم هو أفضل فرصة لأحزاب الوسط السياسي لتوسيع قاعدتها الانتخابية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيو سيرفس»