زادت نتيجة الاستفتاء في إيطاليا الأسبوع الماضي حالة انعدام اليقين السياسي والاقتصادي والمالي التي تواجه أوروبا، التي تعتبر أكبر منطقة اقتصادية في العالم. وعلى رغم من ذلك، سرعان ما تجاهلت أسواق المال العالمية هذا الاضطراب، ربما بوتيرة أسرع بكثير من تغلبها على صدمة التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في يونيو الماضي. ونتيجة لذلك، قفزت المؤشرات الأميركية إلى مستويات قياسية جديدة، معززة الاتجاه الصعودي المثير للاهتمام. ولعل فهم ما يحدث وما لم يحدث، في هذه الدينامية يلقي الضوء على ما هو مرتقب، بما في ذلك، سبل تعزيز ما يبدو حتى الآن «أسواقاً محصنة». وبدا أداء أسواق المال الأميركية ملهماً، ففي نوفمبر الماضي وحده، ارتفع مؤشر «داو جونز» لأسهم كبرى الشركات الصناعية زيادة بنسبة 6.4 في المئة، إلى مستوى تاريخي عند 19.192 نقطة. واستمر هذا الاتجاه الصعودي في ديسمبر الجاري، مع إغلاق المؤشر الأسبوع الماضي عند مستوى قياسي جديد متجاوزاً عتبة الـ20.000 نقطة، بارتفاع زهاء 8 في المئة منذ الانتخابات الرئاسية الأميركية في الثامن من نوفمبر الماضي. وبفعل ذلك، صعد المؤشر الآن في 20 من 24 جلسة تداول، مسجلاً 13 مستوى قياسياً جديداً في تلك الفترة. وبالطبع لا يرجع هذا الصعود الملحوظ إلى استهلال تداولات الأسهم العام الجاري في نطاق مستويات منخفضة تاريخية، لا سيما أن الأسهم سجلت ثمانية أعوام من الصعود، لدرجة أن معظم مؤشرات التقييم تشير إلى أن الأسهم توشك على تجاوز مستويات التقييم العادل، إن لم تكن تجاوزتها. وحتى الدعم الكبير الذي حصلت عليه الأسهم من الانخفاض الهائل في العائدات يتلاشى الآن بسبب رفع أسعار الفائدة في أرجاء العالم. ومن الصعب أيضاً أن نشير إلى تحسن سريع في المعطيات باعتباره سبب الصعود. فلا يزال نمو الاقتصاد العالمي يسير ببطء، وإن كانت توقعات إجمالي الناتج المحلي الاسمي في الولايات المتحدة تبدو جيدة بسبب عوامل النمو والتضخم. ويعقب ذلك تأكيد الرئيس المنتخب دونالد ترامب البنية التحتية وإصلاح ضرائب الشركات وتقليص القواعد الرقابية، إلى جانب التخفيف النسبي في تصريحاته المناهضة للتجارة أثناء الحملة الانتخابية. وفي النهاية، هذا السوق الصعودي ليس مرتبطاً بزيادة وشيكة في دعم السيولة من البنك المركزي للأسواق. وبدلاً من ذلك، من المرجح بشكل كبير أن يرفع «مجلس الاحتياطي الفيدرالي» أسعار الفائدة بواقع 25 نقطة أساس خلال الأسبوع الجاري، في ثاني رفع لها خلال عشرة أعوام. وفي هذه الأثناء، قلص البنك المركزي الأوروبي الأسبوع الماضي وتيرة شرائه الشهرية للأوراق المالية. والحقيقة أن ما يدفع الأسهم إلى الارتفاع بصورة أساسية هو الأمل في ثلاثية السيولة والنمو والتضخم! وفي ضوء التوقعات الجيدة بشكل كبير إزاء عودة أموال الشركات المحجوزة في الخارج، تتوقع الأسواق زيادة في الدعم الذي تحظى به تقييمات الأسهم من أنشطة إعادة شراء الأسهم وتوزيعات الأرباح وعمليات الاندماج والاستحواذ، وكل ذلك من شأنه زيادة وتعزيز ضخ السيولة من القطاعين العام والخاص. ويزيد ذلك من التأثير الملحوظ للنمو الاقتصادي الملائم وتوقعات نتائج الشركات المدعومة بالتصريحات حول سياسات الرئيس المنتخب. وكما هو معروف، لا بد من تعزيز التأثير المفيد لدعم السيولة وتوقعات السياسات بتحقيق تحسن المعطيات التي تدعم مفهوم الأسواق المحصنة، خصوصاً في ضوء الشكوك الهائلة التي تواجه أوروبا. ولحدوث ذلك، يتعين ترجمة الإعلانات المؤاتية للنمو إلى خطة مفصلة، وآليات تنفيذية سياسية، وهي أمور جعلها الكونجرس الذي كان يعانى حالة استقطاب شديدة بعيدة المنال خلال السنوات القليلة الماضية. وتعكس التحركات الأخيرة في الأسواق وجهة النظر القائلة بأن مفاجأة انتخاب ترامب من شأنها إحداث «هزة داخلية» في الطبقة السياسية، وبعبارة أخرى «صدمة تساعد على تقليص الخلل المعطِّل، ومن ثم إرساء حوكمة اقتصادية أفضل». ولا شك في أن الأغلبية التي يحظى بها «الجمهوريون» في غرفتي الكونجرس، إلى جانب الثمار المرتقبة في مجالات مثل الإصلاح الضريبي، وتخفيف القيود والبنية التحتية، تمثل تبريراً إضافياً إلى حالة التفاؤل في الأسواق. وسيكون نجاح التنفيذ، المتبوع بجهود للتغلب على الصعوبات التي ستواجه بعض السياسات الأخرى، مفتاحاً لتحويل هذا التفاؤل إلى واقع. وإذا ما تعززت المعطيات الاقتصادية والمالية، فمن الممكن أن تحول الأسواق القوة التي تحفزها السيولة إلى مسار أكثر استمرارية ومصداقية. وكي يحدث ذلك، لا بد من أن تسفر الصدمة السياسية الراهنة عن نوع من الحوكمة الاقتصادية، التي يستطيع الكونجرس تحقيقها، وإن لم يظهرها منذ سنوات طويلة. أما إذا أخفقت السياسات في تعزيز تأثير ضخ السيولة، فإن الأسواق يمكن أن تعاني حظوظاً عاثرة. يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»