عندما نقول التسامح الديني نعني به المذهب أيضاً، فما عانته أوروبا، في عصورها الوسطى، من عنف ديني واضطهاد مذهبي، يجعل تجربتها درساً قيماً لمَن يحاول إيجاد حل مناسب، بمنطقتنا بالذات، لمعضلة الطائفية والتعصب الديني، الذي تُساق إليه شعوبنا تحت راية الإسلام السياسي، وجوهره التأليب المذهبي. قد يبرز لنا من يقول: نحن غير! المسجد لم يحكم مثلما حكمت الكنيسة بأوروبا، والإسلام غير المسيحية، وما يُناسب تلك الشعوب لا يناسبنا. نعم، هناك شيء من الصحة في ما ذُكر، لكن ليس الصحة كلها، إنما التعصب المذهبي الذي نعاني منه يكاد يكون واحداً، بين سُنَّة وشيعة أو كاثوليك وبروتستانت، فالعلة ليست ما تعتقده الأديان والمذاهب، إنما بإدارة الاختلاف، وبُعده وقربه من الدولة والسياسة، فعندما كانت أوروبا تُدار بعقيدة الدين والمذهب، صارت تلك القارة ساحة حرب ونزاع، والتهمة الأولى كانت التهمة الدينية أو المذهبية. عندما يُعلن الحُكم بالدين والمذهب، وفي القرن الحادي والعشرين، ويُكتب في الدستور هوية الحاكم الدينية والمذهبية، وفي مجتمعات متعددة، هنا علينا قراءة التجربة الأوروبية التي تقدمت على غيرها بمئات السنين، وكان القرن السابع عشر الميلادي أوج صعودها وخفوتها أيضاً. تحقق ذلك بجهود مشتركة من السياسة والثقافة. فمعلوم أن الخلاف السياسي مع الحاكم، في ظل الحكم الديني والمذهبي، يقود إلى خلاف مع دين ومذهب الحاكم، فتأتي العقوبات والمواجهات مغلفة بالخطاب الديني، وضد أي خصم، حتى وإن كان يطلب حقاً شخصياً، فأي رجل دين سياسي، في الوقت الحاضر، يحصر الخصومة بشخصه وحزبه، على أن خصمه أخ له في الدين والمذهب أيضاً؟ لهذا وبسهولة تتحول المواجهة السياسية إلى مواجهة بين مؤمن وغير مؤمن. هذا ما عاشته أوروبا بكل عنف وقسوة، وتخلصت منه، بعد مخاض عسير. كم محارق عدت للمخالفين، وقضى فيها رجال دين، قبل غيرهم، حين اتهموا بالهرطقة والردة عن الدين، ورُموا في أَتونها مقيدين (انظر: ديورانت، قصة الحضارة/ عصر الإيمان والإصلاح الديني). كانت الجامعات مثلما العديد من جامعاتنا اليوم «في دور الاضمحلال.. فالمذاهب الدينية المنتصرة تقوم بتطهيرها من المخالفين، والطلبة المشاغبون ينشرون فيها الفوضى، والخلافات اللاهوتية تسيطر عليها، وكانت الدرجات الجامعية في فرنسا وألمانيا تُباع بالمال، ولم يكن بين أساتذتها أحد من أفذاذ فلاسفة العصر» (ديورانت، نفسه). أرجوكم دققوا في أخبار بعض جامعاتنا، والتي هيمنت عليها الأحزاب والجماعات الدينية، وشكلت اتحاداتها الإسلامية، تحت عناوين براقة، ماذا يحصل فيها خلال المناسبات المذهبية؟! كانت بولونيا من أكثر بلدان أوروبا حروباً ونزاعات دينية وطائفية، وإذا بها تصبح واحة للتسامح، وربما قبل أوروبا كافة، كان ذلك بجهود المثقفين آنذاك، وإصرار ودعم ملكها إيتيان باتوري (1576-1586م) لنشر ثقافة التسامح، الذي بدأ دعوته إلى التسامح بالعبارة: «أنا ملك على الشعب لا على الضمائر.. لقد احتفظ الله لنفسه بثلاثة أمور: خلق العالم من العدم، ومعرفة المستقبل، والتسلط على الضمائر» (لوكلير، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح). اعتمد باتوري على موظفين مخلصين لثقافة التسامح، وقهر الاضطهاد الديني، والتعصب المذهبي، ونأتي هنا بقول مستشاره البروتستانتي، الذي كان مذهبه في حرب وجود مع الكاثوليك، قائلاً للكاثوليكيين: لكم حريتكم، «إني مستعد لبذل نصف حياتي من أجل عودتكم إلى الكنيسة الكاثوليكية، والاحتفاظ بالنصف الثاني للابتهاج بارتدادكم، لكن، إذا ما أقدم أحد على إرغامكم فإني أبذل حياتي بالكامل مِن أجل مساندتكم، بدل أن أكون شاهداً على عبودية كهذه في دولة حرَّة» (المصدر نفسه). كان حرق رجل الدين والمثقف ميشال سرفيه (1553م) بجنيف، انطلاقةً لبث ثقافة التسامح الديني، وكان قبله قد أُعدم الكثيرون، و«سرفيه» هذا «شخصية على جانب من الفضول، يملك فكراً موسوعياً، متلهفاً لكل جديد، إن في المجال العلمي أو في المجال الديني» (المصدر نفسه). سبق «سرفيه» مثقف بارع آخر في بث ثقافة التسامح، إنه «إراسم» (1466-1536م)، والذي وُصف بأنه رجل سلام بامتياز، وقد ظل مؤثراً في دعوة التسامح بعد عصره، فقد شجب عبثية الحرب في كتابه «مدح الجنون» (1511م)، وكان يُكرر المثل القائل «الحرب حلوة ما لم تجربها»، وله «أنين السلام» (1517م)، «الذي تمزقه وتُطارده كلُّ الأمم»، «كما يعرض للوسائل التي تُنظم ما يمكن تسميته، في أيامنا، عملية نزع السلاح» (المصدر نفسه). أقول: إن ثقافة التسامح، في ما نحن فيه من ظلامية الطائفية والتكفير الديني، تتطلب ظهور رجال دين ومثقفين بحجم إراسم، يلتقون سياسيين كإيتيان باتوري. فما وصله شرقنا، والقول لأبي نواس (ت 198هـ): «نوائبُ يعجز الأدباءُ عنها/ ويعيا دونها اللقنُ النَّطاسِ» (الديوان برواية الصولي). هذا، والنطاسي الطبيب الحاذق.