في انتخابات سلمية، ونتائج مدهشة، يعتبر «الملازم» الذي جاء لحكم غامبيا (2 مليون نسمة) منذ عام 1994، خاسراً على رغم تهديده لشعبه بأنه مُكلَّف «بالبقاء في الحكم لبليون سنة»! وهو الذي أخذ حق تغيير اسمه لأكثر من خمس مرات ليصبح «الشيخ»، البروفسور، الحاج، الدكتور يحيى جامع، بابيلي مانسا، ونصير الدين! ولعل هذه الحالة العقلية هي التي تذهب لغرابتها بأي قدرة على تحمل أي شعب لصاحبها، فمن قبل فعلها «عيدي أمين»، ثم بالغ فيها «موبوتو سيسي سيكو»، والإمبراطور «جان بيدل بوكاسا»، وفي كل هذه الحالات خرجت الجماهير لتعامل هؤلاء بالعنف المناسب لحالتهم. ولكن شعب «غامبيا» بعث برسالة أخرى جديرة بالاحترام والتقدير، بل إن أول الانطباعات أو التعليقات كان عن رد فعل بعض النظم الديكتاتورية في القارة السمراء، المشوب بالرعب مما حدث في غامبيا. فأمامهم رئيس فرض عليه شعبه دستوراً يتيح إمكانية الانتخاب الحر، ويدخل الانتخابات ضده حلف سياسي من سبعة أحزاب من التيارات كافة باسم «الجبهة الديمقراطية المتحدة»... ليفوز مرشح المعارضة «آداما بارو» وهو رجل أعمال بسيط، بأغلبية الأصوات 45%، ويحاصر الشيخ البروفيسور في 36% فقط من الأصوات، ويفاجأ العالم بأن «الديمقراطية ممكنة» وليست فقط الديكتاتوريات في بلاد أفريقيا قليلة الحظ في الثروة والمكانة، ونظم الحكم، وإن كان الشيخ البروفيسور ما زال يرفض أيضاً النتيجة حتى الآن. ومهما كان صغر التجربة الغامبية، فإنها لا بد أن تثير قلق عدد من الرؤساء الذين ما زالوا يغيرون الدساتير من أجل دورات رئاسية جديدة، أو يعتمدون في دوراتهم العادية على نفوذ أجنبي يغرق البلاد بثروات طفيلية باسم الاستثمار لا نفع كثيراً منها، مثلما هو الحال في القرن الأفريقي، ومنطقة البحيرات العظمى، وأقصى غرب أفريقيا، وشمالها، دون اعتبار لإمكانية ثورة الشعب على هذه الأوضاع. وإن كانت سلمية في غامبيا، فقد كادت تكون دموية في غيرها. والدرس المتحصل من غامبيا، مرتبط بالكرامة دائماً، فقد وجد الشعب أنه دخل الكونفيدرالية مع السنغال يوماً ما باسم (سنغامبيا 1982- 1989)، فوجد نفسه مستغلاً من طبقتها الطفيلية التي اتخذت «غامبيا» مجالاً للتهريب، ومنفذاً غير شرعي للعالم الخارجي، ثم راحت السلطات السنغالية بقيادة «عبدو ضيوف» تطالب بالوحدة الكاملة في شكل اتحادي «سنغامبيا» وليس مجرد الكونفيدرالية، فرفض الغامبيون وحلوا التجربة كلها. الشعب الغامبي قدم الدرس بالتصويت الحر لأنه عانى السيطرة على بلاده كمنفذ لتجارة الرقيق، وكنموذج لسياسة بريطانيا في السيطرة على منافذ الأنهار، والمياه، وحتى لشركات طيرانها التي تستثمر كثيراً في نقل سياح أوروبا إلى مواقع غامبيا الجميلة على المحيط الأطلسي. بل إن الشعب المسكين تحمل مغامرات الحكم مع ليبيا وإيران كمخزن للسلاح أو لأغراض تتعلق بإقلاق السنغال في النهاية. والسنغال دائمة الحذر من غامبيا بسبب جيرتها لإقليم «كازامانس» المهدد لوحدتها نتيجة بؤسه بدوره. وفي مثل هذه البلاد تكون الديمقراطية هي درس الحق الشعبي في الحكم الذاتي، وإن كان الدرس نفسه يفرض مواقف جديدة ليست بالضرورة مثالية بالنسبة إلى ما سبقها. فالناجح (مؤقتاً) سارع بالإعلان أنه عائد إلى الكومنولث بعد أن خرج البلد منها منذ بضع سنوات لضبط تجارته، والرئيس الجديد رجل أعمال، سيذهب بعيداً في سياسة السوق والمساومة من هذا الموقع الاقتصادي، كما أن علاقاته وأصوله العرقية التي أنجحته (الولوف والفلان والماندينج) ستبقيه مرتبطاً بزعامات هذه المجموعات ذات القيادة الدينية أصلاً، وكان «البروفيسور» في آخر محاولاته للتخفيف من هذا الارتباط قد أعلن غامبيا جمهورية إسلامية. ويظل المكسب الديمقراطي في تجربة غامبيا، إن نجحت، هو أن تكون إنذاراً دائماً، وإشارة إلى دور الوعي السياسي، وليس مجرد الأدوار الخارجية المشبوهة لحماية المسار السياسي الهادئ في حكم البلاد. بقي على الرغم من كل هذه الدروس أن يدفع الجنون الحاج يحيى جامع إلى رفض نتائج الانتخابات التي يتهمها بالتزييف، كما يبدو من بعض تصريحاته مؤخراً مع تسليمه السابق بالنتائج، وهو يستعين بالجيش لرفض كل ما تم بحجة رغبته في إعادة الانتخابات.. ولن ينقذ غامبيا من هذه النتيجة المؤسفة إلا رفض السنغال لهذا السلوك، وتدخل قادة منظمة «الإيكواس» والاتحاد الأفريقي لتهديده بالمقاطعة أو التدخل المباشر.. وهذه قصة أخرى.