لا خلاف في أن استعادة النظام السوري لمدينة حلب تعني هزيمة القوى المعارضة المسلحة في إحداث التغيير الذي بدأ مع الانتفاضة الثورية التي انطلقت قبل خمس سنوات في سياق حركيّة «الربيع العربي»، حتى لو كان النظام غائباً في مناطق واسعة من البلاد، بما فيها ريف العاصمة دمشق وبعض المدن المتوسطة، إلا أنه غداً يسيطر عملياً على المدن الخمس التي تشكلت منها الهندسة السياسية للدولة السورية الحديثة (دمشق وحماة وحمص وحلب واللاذقية). ومن البديهي أن مأزق المعارضة السورية نتج - بالإضافة إلى التدخل الروسي الإيراني الذي كان حاسماً في مآلات المعركة- عن عسكرتها التي تمت بعد اشتداد القمع الحكومي وصعود التيارات الدينية المتطرفة والعجز عن استمالة الأقليات الدينية والطائفية الفاعلة في المجتمع السوري. السؤال المطروح اليوم هو: هل ستنجح محاولة إعادة بناء الدولة ولو على أساس نفس الآليات التسلطية السابقة بعد سنوات دامية من الصراع المسلح، والمرشح للاستمرار في هوامش وأطراف البلاد، في الوقت الذي ليس من المتوقع أن ينجح النظام في تطبيع وضعه في النظام الإقليمي والساحة الدولية؟ وعلى الرغم من اختلاف الحالة العراقية، فإن القضاء على «دولة داعش» في الموصل لن تترتب عليه استعادة الدولة العراقية وجودها الفاعل في وسط وشمال البلاد في سياق متأزم تطبعه النزاعات الطائفية والنفوذ الإيراني المتزايد الذي أصبح له طابع «قانوني» مع الترخيص لمليشيات «الحشد الشعبي» التي هي الذراع المحلي للحرس الثوري الإيراني. في اليمن حالة مماثلة مع إعلان المليشيات الحوثية قيام حكومة انفصالية في الشمال، وفي ليبيا وضع مشابه بتعثر جهود إعادة بناء الدولة واستعادة وحدتها في مواجهة الكيانات الانفصالية. الكثير من الدراسات التي حاولت تفسير انهيار الدولة الوطنية العربية في سياق صدمة التحول التي أحدثتها موجة «الربيع العربي»، ذهبت إلى التنبيه إلى عاملين أساسيين مترابطين هما: ضعف شرعيتها الناتجة عن طابعها السلطوي الاستبدادي الذي جعلها في مواجهة مع المجتمع، وهشاشة رصيدها التاريخي باعتبارها كياناً مصطنعاً من تخطيط وتنفيذ الاستعمار الأوروبي. العاملان صحيحان، بيد أن أغلب بلدان العالم خضعت لنفس المسار، ولم تستند لإرث تاريخي في البناء المركزي وأسستها أنظمة سلطوية مستبدة إلى حد أن الفيلسوف الألماني هيغل اعتبر أن الدولة تحتاج في تأسيسها إلى «الآباء القساة»، على أن تكون لحظة الحرية السياسية نتيجة لاحقة، وهو المشهد الذي تحقق عملياً في مجمل الدول الأوروبية العريقة التي قامت على شرعية «الحق الإلهي المطلق» الذي تُرجم بَعدياً في مقولة السيادة المطلقة بالمعنى السياسي الحديث. ثم إنه ليس من الصحيح أن تجربة الدولة الوطنية العربية قامت على محض المخططات الاستعمارية، وإنما كان للنخب المحلية دور أساسي في بناء الدولة سواء في مرحلة الانتداب الاستعماري أو في لحظة بناء الدولة المستقلة. وإذا كانت المرحلة الليبرالية التي مرت بها جل الدول العربية الحديثة عكست موازين القوة بين هذه النخب المحلية التي تتوزع أساساً إلى نخب أهلية (قبلية وطائفية..) ونخب عسكرية وإدارية (ترجع للحقبة العثمانية والعهد الاستعماري)، فإن الأحكام العسكرية وأنظمة الحزب الواحد استندت في تركيبة السلطة إلى ما يسميه المفكر الإيطالي غرامشي «حلف هيمنة» له بناؤه الاجتماعي الناجع. الهيمنة وفق تحديد «غرامشي» تختلف عن السيطرة، باعتبارها وإن كانت ليست حالة ديموقراطية توافقية، فإنها ليست مجرد تحكم تعسفي قمعي، بل هي حصيلة حلف بين قوى اجتماعية فاعلة لا يأخذ شكلاً مؤسسياً تعددياً وإنما يتم التعبير عنه وفق صيغ أحادية مركزية (كتلة تاريخية حسب عبارة غرامشي). لم تنجح الدولة الوطنية العربية في الوجود والاستمرار إلا لقيام حلف هيمنة بين قوى ثلاث رئيسة: المؤسسة العسكرية التي أهلتها ظروف معروفة لتصدر البناء المركزي، والبيروقراطية الإدارية المسؤولة عن تسيير الشأن العمومي، والزعامات الأهلية التي اضطلعت بدور الوساطة الضروري مع القاعدة السكانية العريضة. ما كشفت عنه أزمات «الربيع العربي» هو انهيار هذا الحلف في الجمهوريات العربية نتيجة لعوامل جوهرية تتعلق بتركيبة كل من المكونات الثلاثة: الجيش الذي تحول لأسباب داخلية معقدة إلى نظام مليشياتي، والبيروقراطية الإدارية التي لم تعد قادرة على إدارة المؤسسات العمومية المشلولة، والزعامات الأهلية التي غدت عاجزة عن الوقوف أمام حركات التطرّف والتعصب الراديكالية إن لم تضطر للالتحاق بها في بعض الساحات. التحدي المطروح راهناً على النظام الإقليمي العربي في محاولته إنجاز مصالحات داخلية في البلدان التي تشهد حروباً أهلية مستمرة، هو: ما هي الآليات التي بجب اعتمادها في إعادة بناء الدولة؟ وهل الخيار متاح بين حلف الهيمنة التقليدي الذي انهار عملياً والحلف التوافقي الديموقراطي الذي فشلت قوى التغيير في فرضه؟ ----------------- *أكاديمي موريتاني