في كل قمة خليجية خلال العقود الثلاثة الماضية، يستحضر قادة وشعوب ومثقفو الخليج معضلة الأمن الخليجي الذي يفتقد منذ عقود بعض عوامل توازن القوى والاستقرار ويعتمد على الأمن المستورد. ومع ذلك ظل مجلس التعاون الخليجي هو أنجح تجمع إقليمي عربي في مواجهة الصعاب والتهديدات والحروب، بإصرار قادة الدول على تطوير القدرات الدفاعية والعسكرية، والمضي في تنويع مصادر الدخل الصعب والمعقد، والسعي الحثيث بالخطط الخمسية على طريق ترسيخ التنمية المستدامة لشعوب دول المجلس. وقد عُقدت القمة الخليجية الـ 37 في المنامة وسط توقعات كبيرة بأن تخرج بمواقف وسياسات غير تقليدية، تطمئن في جوانب الأمن والاستقرار، وتدفع لتحقيق التقدم والرخاء لما بات واقعاً معيشاً بأن بلدان مجلس التعاون الخليجي الستة تقود النظام العربي منذ سنوات في نواحي القوتين الناعمة والصلبة، وفي مجال المبادرات السياسية والتنموية والاقتصادية وحتى العسكرية مع حرب اليمن والتصدي للنظام السوري، والدعم التنموي لمصر والعديد من الدول العربية. وقد عُقدت القمة في أكثر الظروف حرجاً، فهناك فراغ استراتيجي، وشعور باستهداف واضح لدول مجلس التعاون، وللأمن الإقليمي الخليجي والعربي. والجامع المشترك بين كلمات زعماء الخليج في جلسة الافتتاح بقمة المنامة، وكذلك في البيان الختامي، هو أن هناك تهديدات أمنية و«تحالفاً بين الطائفية والإرهاب والتدخلات الخارجية السافرة». ولكن المطلوب أكثر من تشخيص المرض، بل معالجة هذا الداء، بإيجاد توازن قوى إقليمي يردع ويمنع تدخلات الأطراف الأخرى سواء كانت إقليمية أو دولية، خاصة مع الانكفاء وسياسة رفع اليد الأميركية عن المنطقة. ولكن الأخطر، هو أنه لا يوجد موقف خليجي جامع حول حزمة التهديدات الخطيرة التي تعصف بدول المنطقة منذ أربعة عقود. ويعاني التحالف الخليجي كأي تحالف آخر من تباين حول مصادر الأخطار والتهديدات والأولويات والقيمة المضافة للتحالف. وخلال عقود لم تنجح دول المجلس في توحيد الرؤى. وهناك نذر مواجهة مقبلة بين إدارة ترامب وإيران. وخاصة بعد تصويت الكونجرس بمجلسيه بأغلبية ساحقة على تجديد العقوبات على إيران لعشرة أعوام. ولكن هذا قد لا يعني بالضرورة تحرك الولايات المتحدة لوقف التدخل الإيراني في المنطقة، بسبب رؤية ترامب بأن التحالف مع روسيا والأسد، مكمل للحرب على تنظيم «داعش». ويستمر الالتزام التحالف العربي في مواجهة تمرد الحوثيين وحلفائهم في الداخل والخارج في اليمن. وكذلك تستمر سورية في النزيف والتشظي، وتتداخل فيها الحروب الأهلية الطائفية والمذهبية، وتخاض فيها الحروب الباردة والإقليمية على حساب الشعب السوري الذي تحول ما بين قتيل ومشرد ولاجئ وغريق! ويستمر غرق العراق أيضاً في نيران التقسيم والتدخلات المستمرة من طرف إيران بتقوية النفَس الطائفي، ومع تحول «الحشد الشعبي» إلى قوة ضاربة وهو يفاخر بأنه بات أقوى من الدولة نفسها وجيشها. وتستمر أيضاً الحرب على تنظيم «داعش» والتنظيمات الإرهابية في المنطقة. ولعل السؤال الكبير أمام قادة مجلس التعاون الخليجي في القمة الخليجية كان عن تفكيك لغز التعامل مع إدارة ترامب القادمة في واشنطن، وما هو الجامع والمشترك معها؟ وما هي مقارباتها للمنطقة؟ وأين تقع منطقة الخليج العربي في سلم أولويات إدارة ترامب؟ وماذا عن إيران وبرنامجها النووي وسلوكها وتدخلاتها في شؤون دول مجلس التعاون؟ وكيف ستتعامل مع ذلك الواقع إدارة ترامب الجديدة؟ وكانت النبرة قوية وواضحة في البيان الختامي أو ما عُرف بـ«إعلان الصخير»، في التأكيد على استنكار تدخلات إيران في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، ومطالبتها بضرورة تغيير سياستها. وفي رسالة واضحة عن التضامن الأمني الخليجي، أكد القادة أن «أمن الخليج كل لا يتجزأ.. والحفاظ على أمن واستقرار دول المجلس يُسهم في حفظ الأمن الإقليمي». ورفض البيان التدخل الخارجي في اليمن ودعم الحل السياسي بناء على المرجعيات المتعارف عليها وقرارات مجلس الأمن. وكذلك جرى التأكيد على وحدة سوريا واستقرارها وسلامتها. وفي مقاربة مهمة في تفكيك عقلية الحصار في دولنا الخليجية، عالجت القمة منظومة التهديدات والتحديات والهواجس الأمنية بالدرجة الأولى، إذ لا تقدم ولا استقرار ولا رخاء اقتصادياً من دون أمن واستقرار أولاً. ولذلك نجحت قمة المنامة في تشكيل نقلة نوعية وخطوات ثابتة نحو التكامل الاستراتيجي، بالمزيد من التنسيق الأمني والعسكري والاقتصادي والتنموي، في تلمس واضح لحجم التحديات الكبيرة الداخلية والإقليمية والدولية، وفي تقدم الأمن على الاقتصاد والتنمية. كما كان مطمئناً حضور رئيسة وزراء بريطانيا تريزا ماي وتأكيدها للالتزام بأمن واستقرار دول المجلس، وأن «أمن الخليج هو من أمن بريطانيا». وكذلك تأكيد وزير خارجيتها بوريس جونسون، في «حوار المنامة»، أن بريطانيا ستعود للخليج، بعد أكثر من أربعة عقود من انسحابها من شرق السويس، في الالتزام بريطاني واضح بأمن الخليج. كما أن قرارات القمة الجادة بزيادة التعاون العسكري واعتماد الاتفاقية الأمنية، والتطرق للمرة الأولى للاتحاد الخليجي كمطلب شعبي، والعمل على تحقيقه، كل ذلك شكل خريطة طريق مهمة لتحصين الأمن والتكامل الخليجي. وسنعود للتفصيل أكثر إن شاء الله. ----------------- * أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت