دعيت لإلقاء سلسلة محاضرات في مدينة «مونبلييه» الفرنسية بين الجالية المغربية في مطلع ديسمبر 2016، وفوجئت بالتواجد الكثيف للمغاربة هناك. قال لي صديق، إن ما لا يقل عن 20 في المئة من سكان المدينة هم من أصل مغربي. ولاحظت ذلك في الفندق وفي الشوارع والمطاعم. في الفندق كانت سيدة مغربية من مدينة بركان، وصاحب المطعم من وجدة، والمحاسب من تطوان. وكانت محاضرتي الأولى في مسجد ابن رشد. قلت إنها بداية حسنة حين لم يتنكروا للفيلسوف ابن رشد. وفي مسجد عائشة ذكر لي الإمام أن ألفي فرنسي أسلموا على يده، والوثائق عنده. قلت له معقباً نريد منهم ألا يتحولوا إلى شكل عربي بل إن يتحول بعض العرب إلى فرنسيين في الثقافة من النظافة والترتيب ودقة العمل والمحافظة على المواعيد واحترام المرأة والقوانين. هنا يكون التحول في المسار الإيجابي. وفي كل محاضراتي الثلاث كانت الفاتحة والخاتمة أن الجالية مهددة بخطر عظيم ومرض وبيل من تسرب فيروسات الفكر المتطرف وذيوله المدمرة لوجود أفراد الجالية ومصير أطفالهم. وكما يجب تعميم اللقاحات زمن الأوبئة فإن هذا الزمن الرديء يجب النظر إليه، مثل أي حالة إسعافية للعلاج السريع، بالترشيد الفكري، فمحاربة الإرهاب بأسلوب قاصر هو كمعالجة سرطان بحبة الإسبرين للصداع المرافق وإغفال مكمن الداء الفعلي، وهي المعروفة في الطب بالمعالجة السببية. وأمام الفندق حيث نزلت وحيث يسبح الترامواي برشاقة تحركت مظاهرة صغيرة جلها من النساء. ظهر عليهن أن الغالبية أيضاً من الأفارقة ومعهم بعض الفرنسيين والبوليس في حراستهم. وحين حدقت في اللافتات المحمولة في أيدي الأطفال إذا بها اعتراض على إهمال عمارة لهم من البلدية. تذكرت الحفر والنقر والقذارة في جل العالم العربي، مع أن حديث رسول الرحمة، صلى الله عليه وسلم، يشير إلى أن الإيمان بضع وسبعون شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق. وعندنا لا يميطون الأذى بل يرمونه على قارعة الطريق، ويكسرون أعمدة الكهرباء ومقاعد الاستراحة. في هذه المدينة الجميلة «مونبلييه» المحمية أيكيولوجياً لم أجد أكياساً محتشدة في الزوايا أو بقايا علب المشروبات السريعة أو حفراً في الشوارع أو خللاً في أمكنة تصريف الماء في الشوارع. كلها جمال وروعة وإتقان ونظافة. قال لي مغربي مهاجر من إقليم مللعب عمالة الراشدية، عن هؤلاء الناس كأن الإسلام بينهم وليس بيننا! وأضاف عندنا من العمال من يأخذ الشوماج (إعانة الدولة في البطالة) ثم يعمل من تحت الطاولة، فهو يأخذ راتبين، ولكن أحدهما حلال والثاني حرام! وهز رأسه وقال إنهم يخربون النظام الفرنسي وهم يعيشون في ظله! أتذكر في هذا الصدد تعبيراً للمفكر الجزائري مالك بن نبي عن «القوارض الاجتماعية». بل ويحضرني فكر شائه لدى المتشددين الذين يرون أن مثل المجتمع الفرنسي، أو حتى العربي، «كافر» و«مجتمع جاهلية» يجب تدميره، فيكسب الإنسان أجراً، في زعمهم المنحرف، إن خالف الأنظمة المرورية! وقد قلت لهم في محاضرتي إن من مسؤوليتنا أن نحافظ على القيم الإيجابية في المجتمع الفرنسي وندافع عنها بكل وسيلة ممكنة، وعليكم أن تدركوا أنكم انتقلتم في الزمن وليس في الجغرافيا، فالمسافة بين بلدانكم و«مونبلييه» هي مجرد ساعتي طيران، ولكن النقلة الحضارية هي قرون! فالقوم عانوا كثيراً وأنتم تتمتعون بثمرات هذا الإنجاز. ومدينة «مونبلييه» قطعة حضارية تاريخية من الجمال مستلقية في أحضان نهر «ليز» (Lez)، يتلوى في شوارعها الفسيحة ترامواي مثل ثعابين البوا الملونة البديعة، وفيها مكتبة من أروع ما أبدعته إنجازات المعمارية العراقية زهى حديد العراقية قبل أن توافيها المنية، رحمة الله عليها وعلى العراق الذي أصبح في مقبرة التاريخ.