يعرف فرانسوا فيون، رئيس الوزراء الفرنسي السابق، والمرشح الحالي عن اليمين لانتخابات الرئاسة المقبلة، بمسيرته المهنية الباهرة كسياسي ومشرع ووزير ورئيس حكومة، كما قدّم نفسه للقراء من قبل أيضاً في كتابات تكشف عن أبرز تصوراته ورؤاه لتجاوز التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها فرنسا منذ زمن غير قصير، وفي آخر كتبه «هزيمة الشمولية الإسلاموية»، يقدم هذه المرة نفسه للجمهور العريض باعتباره سياسياً حازماً وصاحب رؤية كفيلة بمواجهة التحديات الأمنية، وخاصة أن كتابه هذا قد صدر بعيد هجوم مدينة «نيس» الشهير الذي قتل فيه 86 شخصاً ضمن هجمة إرهابية كانت من أبشع وأشنع ما عرفته الأراضي الفرنسية خلال السنوات الماضية، هذا طبعاً إضافة إلى هجمات يناير ونوفمبر من العام الماضي، التي جعلت الهاجس الأمني يقفز إلى صدارة اهتمامات الجمهور الفرنسي. ومنذ بداية الكتاب الواقع في 162 صفحة يقول فرانسوا فيون إن على فرنسا الآن تجاوز كثير من الأحكام الجاهزة والصور النمطية وسياسات الاستسهال والارتجال في فهم طبيعة التحدي الأمني ممثلٍ في تفاقم ظاهرة العنف والتطرف والإرهاب في صفوف قطاع محسوس من أبناء الجالية الفرنسية من أصول مهاجرة. ولعل أول المطلوب على طريق الاستجابة الفعالة لهذا التحدي الجارف هو تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، وبتعبيره هو تسمية القط قطاً والشمولية شمولية، وعدم اللف والدوران حول المعاني والألفاظ للتهرب من الاعتراف بأن البلاد تواجه اليوم خطراً وجودياً يتعين السعي لمواجهته بالقدر الذي يستحقه من جدية وإرادة وعزيمة وفاعلية قانونية واجرائية، في كافة المجالات والقطاعات المعنية بحماية فرنسا، وتأمين مواطنيها، وتعزيز استقرارها والدفاع عن مصالحها في الداخل والخارج. بل إن هذه الهجمة الإسلاموية المتطرفة التي تتكالب على فرنسا اليوم من شأنها إن تركت الأمور للمتطرفين على الغارب أن تشكل نوعاً من بداية حرب عالمية ثالثة، لا تبقي ولا تذر، بحكم كونية وعالمية تهديد الإرهاب الدولي نفسه، كتهديد ماحق يلقي بظلاله الثقيلة على الحياة اليومية لجميع الأمم والشعوب في العالم أجمع اليوم. ومن هنا فإن السؤال، من وجهة نظر فيون، لم يعد عن حجم ومدى التهديد، وإنما عن كيفية احتواء خطره وسبل إلحاق الهزيمة بالمتطرفين والإرهابيين الساعين لاستهداف فرنسا وتقويض قيمها، وتهديد أمنها واستقرارها، وتحويل نمط حياة مواطنيها إلى قطعة من الرعب والعذاب والجحيم. وفي ذروة حملة الانتخابات التمهيدية لليمين الفرنسي جاء كتاب فيون هذا متضمناً انتقادات حادة للطريقة العامة التي تعامل بها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الذي كان منافسه في انتخابات اليمين، هذا فضلاً عن كيل التهم أيضاً بشدة لسياسة المنافسين في اليسار الاشتراكي وخاصة الرئيس فرانسوا أولاند، وعجزهم عن إيجاد مقاربة كفيلة بإلحاق الهزيمة بالإرهاب، وصد خطر العنف والتطرف الإسلاموي عن الأراضي الفرنسية. بل إن ما ظل متبعاً حتى الآن من مقاربات وسياسات يكاد ينحصر في اجترار مواقف وردود فعل لْحظية ملتوية، أو الانخراط في الخطابة الفجة الفارغة وإطلاق الوعود الشعبوية الديماغوجية التي لا يتأثر بها المتطرفون في النهاية، ولا تتحول إلى سياسات مطبقة على أرض الواقع تكف خطرهم، وتسمح بالقضاء على التهديد الذي يمثلونه على فرنسا والفرنسيين. والبديل عن كل سياسات الديماغوجية وعدم الفاعلية تلك هو إعادة مسح الطاولة من جديد، والعمل وفق مقاربة واقعية، مستندة إلى تدابير وسياسات عملية، تضمن نتائج ملموسة، وتؤدي في النهاية إلى كسب دولة القانون الرهان ضد المتعصبين والمتطرفين، من كل شكل ولون. ويرى فيون أن جسامة الخطر الذي تواجهه بلاده اليوم يفرض عليها العودة إلى بعض تقاليد عهد جورج كليمنصوه، الرئيس الفرنسي في أيام الحرب العالمية الأولى، حين كان الشعار السياسي العام يقول: «علينا أن نعرف أولاً ما نريد.. وعندما نعرفه علينا أن نتحلى بالشجاعة لقوله بصراحة، وعندما نقوله لنمتلك الشجاعة أيضاً لتنفيذه». وهذا تحديداً هو المطلوب اليوم في مواجهة الشمولية الإسلاموية، إذ علينا أن نتبع حيالها سياسة من المكاشفة مع الذات وإدراك حجم الخطر، وعدم التردد في الإعلان عن هذا، واكتساب الشجاعة والإرادة الكافيتين لصد الخطر ورد الصاع صاعين لكل من يحاولون استهداف فرنسا. وهنا يعيد فيون التذكير بعبارة صدرت عنه في كثير من مقابلاته هي تكراره أنه «لا يمضغ الكلمات»، وإنما يقول ما يراه صراحة ودون مواربة أو مجاملة أو عزف على أوتار شعبوية، كما يفعل ذلك لأغراض شعبوية كثير من منافسيه الديماغوجيين في اليمين واليسار الفرنسيين معاً، على حد سواء. وفي مقاربته هو يرى أن الطريقة الفعالة الوحيدة لمواجهة تحدي الإرهاب في فرنسا تكمن في الانخراط بكل قوة وثقل وإرادة في محاربة الشمولية الإسلاموية وخطابها العنيف المتطرف والعمل بكل الوسائل والإمكانات المتوافرة لإلحاق الهزيمة بها، وخوض هذا الصراع بتأنٍّ وحزم وعزم وبأعصاب باردة، ودون تشنج أو انفعال أو ارتجال. ويجب الاعتراف علناً بأن المشكلة ليست مع الإسلام أو الدين في حد ذاته، وإنما هي مع مجموعات من الأفراد متأثرين بأفكار متطرفة، وذوي نزعة عنيفة، وضمن محاولات تحديد مكمن الخطر تحديداً، والعدو الذي يجب الانخراط في محاربته يستطرد فيون قائلاً: «لقد قلتها منذ سنوات عديدة: إننا نواجه خطر الشمولية الإسلاميوية. إنها تريد أن تفرض علينا نموذجاً في الحياة والاجتماع والنظام يروم التحكم في حرية الأفراد، مع نزعة إبادية»! وهنا يتعين أن تبقى المسألة واضحة تماماً فليست هنالك مشكلة دينية، وإنما هنالك مشكلة مرتبطة بالفهم المغلوط للإسلام لدى بعض المتطرفين. وعن التدابير العملية الكفيلة بصد خطر التهديد الإرهابي يرى فيون أن مشكلة فرنسا لا تكمن في نقص القوانين والتشريعات الكافية لتحقيق هذه الغاية، بل إن عندها ترسانة واسعة من التشريعات الموجودة سلفاً والقادرة على صد التهديد، وإنما سبب المشكلة هو القصور في تطبيقها، أو حتى العزوف عن تفعيلها أحياناً، والانخراط بدلاً من ذلك في المطالبة الشعبوية بسن شريعات جديدة غير ضرورية. وعلى سبيل المثال فلا حاجة لإيجاد تشريع جديد يمنع دخول الأراضي الفرنسية على كل الفرنسيين الذين ذهبوا للخارج من أجل القتال مع جماعات إرهابية. فمنع هؤلاء من العودة لتهديد أمن واستقرار فرنسا أمر قانوني متأسس على كثير من التشريعات النافذة السابقة. غير أن فيون يؤكد هنا أيضاً أن خطته المقترحة لمحاربة الشمولية الإسلاموية تندرج في سياق دولة القانون، ولا تخرج على أصولها القانونية والأخلاقية، بأي وجه. كما يؤكد أيضاً في الوقت ذاته أن خطته لا تقتصر على تدابير قانونية وإدارية داخلية فقط، بل تضع في الحسبان كذلك البعد الدولي في هذه المواجهة حيث يريد الاندراج ضمن تحالف دولي موسع قد يشمل روسيا وحتى إيران، لإلحاق الهزيمة بالعدو رقم 1 تنظيم «داعش» بغية القضاء عليه في معاقله بشكل حاسم. كما يلزم العمل أيضاً على إعادة تأسيس البنية الأمنية والدفاعية الأوروبية بكيفية تضمن فاعلية أكبر للأجهزة الاستخبارية والأمنية على مستوى الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى سد كافة الثغرات والمناطق الرخوة في الشراكة القارية التي كان الإرهابيون يستغلونها، ويتسللون عبرها لإلحاق الأذى بالدول والشعوب الأوروبية. وفي المجمل فلابد ضمن خطة المواجهة المنشودة هذه من تحول جذري وتدابير استثنائية للاستجابة للحالة الاستثنائية التي تواجهها فرنسا وأوروبا اليوم، على أن يتم ذلك على كافة المستويات من سياسات أمنية، وسياسة خارجية، وسياسة دفاع، وسياسات حضرية وثقافية وتربوية، وكذلك لابد من تحول جذري في نمط أداء المنظومة القضائية والعقابية مثلاً بتشكيل محاكم مستعجلة للبت في القضايا بأسرع وقت ممكن، وإن كان فيون هنا لا يؤيد أيضاً توسيع التدابير الاستباقية، لأنها قد لا تخلو من محاكمة نوايا أو استبطان لكثير من الأحكام الجاهزة والصور النمطية. ومع اشتمال أسلوب فيون أحياناً على صور من المبالغة اللفظية والتوسع في استدعاء دلالات الألفاظ وإحالاتها الذهنية في مخيال الجمهور الغربي، إلا أن كتابه بصفة عامة ربما يبدو خطة أقرب إلى الواقعية، مقارنة مع كثير مما يتردد لدى منافسيه في اليمين المتطرف، واليسار الاشتراكي، وهو ما من شأنه دعم موقفه في رئاسيات العام المقبل. ولعل ارتفاع سقف المبالغة لديه إلى حد الحديث عن حرب عالمية ثالثة كان سببه المزايدة على الخطابة اليمينية المتشددة لدى منافسه السابق ساركوزي، ومنافسته المقبلة المتوقعة زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن، حيث سعى هو أيضاً للأخذ بطرف من هذا الخطاب اليميني الشعبوي الرائج الآن في صفوف قطاعات واسعة من الجمهور الفرنسي، بل لدى شعوب القارة العجوز ككل. حسن ولد المختار الكتاب: هزيمة الشمولية الإسلاموية المؤلف: فرانسوا فيون الناشر: ألبين ميشل تاريخ النشر: 2016