يضع الأزهريون لمؤسستهم العريقة عنواناً عريضاً يصفها دوماً بأنها «جامع وجامعة» واضعين أيديهم على السمات والصفات والقسمات العريضة التي حكمت مسيرتها عبر تاريخ طويل، مفعم بالتفاعلات والممارسات التي انطلقت من التراث إلى المعاصرة، ومن الخاص إلى العام، ومن التجمع إلى المجتمع، ومن الدولة إلى العالم، ومن الدين إلى الدنيا، صانعة حولها نقاشاً وجدلًا عميقاً عن علاقة علماء الدين بسياقهم الاجتماعي والسياسي، ودورهم في الاستجابة للتحديات الحياتية المتوالية والمتجددة، ومدى تعويل جموع المسلمين عليهم في أداء المهام الملقاة على عاتقهم. ونظراً لأن الأزهر «الجامع» هو الأقدم، والضارب بعمق في جذور التاريخ، فإنه يلقي بحمولاته على الأزهر «الجامعة»، ليس فقط من زاوية المزاوجة بين علوم الدين وعلوم العصر الحديث، وإنما أيضاً من ناحية التقاليد والأعراف التي تحكم المسار التعليمي برمته، كما تهندس كثيراً من اللوائح، وشروط دخول هذه الجامعة، ونمط علاقتها بالجامعات المدنية في مصر وخارجها، ودور وموقع المشيخة في تسيير الجامعة، ترتيباً ومناهج وقرارات وعلاقات وتصورات ومدركات. وكانت أمام الأزهر دوماً ثلاثة خيارات، كان عليه أن يفاضل بينها أو يختار اثنين منها، وهي مسألة اختلفت من زمن إلى آخر، ومن نخبة أزهرية إلى أخرى. وهذه الخيارات هي: 1- الاستمرار في التركيز على علوم الدين، التي نشأت من تفسير وتأويل النص المؤسس للإسلام وهو القرآن الكريم، وكذلك النص النبوي متمثلًا في الحديث الشريف، وتفاعل النصين مع الواقع الاجتماعي، وظهور ضرورة للرد على أتباع الديانات الأخرى، أو المشككين في الدين الإسلامي. 2- المزاوجة بين علوم الدين وعلوم الدنيا، التي فرضتها التطورات، وتخصصت فيها جامعات مدنية، سواء كانت علوماً إنسانية مثل الاجتماع والاقتصاد والسياسة وعلم النفس واللغة والتاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا والآثار والاتصال، والعلوم البينية المرتبة على تفاعلها الخلاق. أو كانت العلوم الطبيعية من طب وهندسة وفيزياء وأحياء وكيمياء ورياضيات. 3- عصرنة العلوم الدينية بحيث تستفيد من عطاءات العلوم الأخرى، والتطور الذي شهدته مناهج العلم في القرنين الأخيرين، بما يؤدي إلى تفكيك العديد من المقولات والتصورات التي يتعامل معها البعض، على أنها ذات قداسة بدرجات متفاوتة، على رغم أنها منتج بشري. وهناك اتفاق تام بين الأزهريين على الخيار الأول، اقتناعاً منهم جميعاً بأن الدور الأساسي للأزهر هو العناية بعلوم الدين ورعايتها، لأن هذه هي المهمة الرئيسية التي على الأزهر أن ينهض بها، ولأن صورة الأزهر في أذهان الناس انطبعت على هذا الأمر، بل إن كثيرين يلجأون إليه في سبيل القيام به على أفضل وجه ممكن. وفي الوقت نفسه هناك خلاف بين الأزهريين على الخيار الثاني، ولكن المختلفين ليسوا فريقين متساويين في الحجم، فقلة فقط هي التي تتمنى أن يتوقف الأزهر عن تدريس العلوم التي تنهض بها الجامعات المدنية، ويتفرغ للدراسات الدينية. وحجة هؤلاء أن انشغال الأزهر بغير العلوم الدينية أثر على اختصاصه الأساسي، فلا هو تقدم بعلوم الدين إلى المستوى المطلوب حالياً، ولا قدم إسهاماً في علوم الدنيا يساوي ذلك الذي حققته الجامعات الأخرى. ولكن الأغلبية تتمسك باستمرار الوضع الحالي، وتقدم حجة في هذا هي أن الأزهريين، كعلماء دين، في حاجة ماسة إلى تحصيل الكثير من العلوم الأخرى المفيدة لهم في مهامهم، نظراً لأنها توسع مداركهم، وتعمق معارفهم. ويقول هؤلاء دوماً: «نريد الطبيب والمهندس والكيميائي والمحاسب والصحافي والمحامي والمترجم الذي يعرف دينه، وهذا هو ما يتوفر في خريج كليات الأزهر، الذي يدرس علوم الدين إلى جانب تخصصه». أما الخيار الثالث، فيثير جدلًا كبيراً في أوساط الأزهريين، بل إن من بينهم من ينظر إليه بعين الريبة، ويقول «نحن نأخذ بهذا الأمر بالفعل»، ولكن الناقدين، بمن فيهم أزهريون، يرون أن الأزهر يتخفف من هذه المسألة إلى حد بعيد، وأنه لو طبق مناهج العلم الحديث، ولاسيما في علوم اللغة وخاصة مقاربات الدلالة والأسلوبية واللسانيات، وكذلك عطاءات علميْ الآثار والأنثرولوجيا، وعلم الاجتماع الديني والتاريخ ووسع مجال الأديان المقارنة، لتفكك الكثير من الرؤى والمقولات التي يتبناها. وفي كل الأحوال فإن تبني أحد هذه الخيارات، أو المزاوجة بين اثنين منها، أو الجدل حول بعضها، يثبت، ولا ينفي، اللافتة التي يضعها الأزهر على صدره منذ زمن بعيد وهي أنه «جامع وجامعة».