قاربت الإمارات على الدخول إلى نصف قرن من مسيرة العطاء منذ النشأة الأولى، وهي تحث الخطى نحو صناعة إنجازات تاريخية أهمها بلا مُنازع عِقد الاتحاد الرصين، ومجده التليد. قبل أكثر من ثلاثة عقود استمعت إلى محاضرة لأستاذٍ كريمٍ له فضل تعليمي في جامعة الإمارات «أم الجامعات»، وهو يحدّثنا عن الفوارق الحضارية بين الأمم، فذكر الفارق الحضاري وليس الزمني بين الأمة العربية والإسلامية، وبين الأمم الغربية المتحضرة بخمسمئة عام. وعاد بنا إلى عهد الأندلس الذي ترك فراغاً منذ فقدها لم يردم أو يملأ هذا الفراغ الحضاري والواقع العربي اللاحق الصعب، وما زلنا نحاول الوصول إلى ما كنا عليه، وليس ما يجب أن نكون عليه اليوم أمام منافساتنا من أرقى الأمم. ووسط هذا الفراغ الحضاري، أعلن التاريخ المعاصر عن ولادة اتحاد عربي مكين من سبع إمارات كانت متصالحة في الزمن السابق وأصبحت متحدة بالروح والمصير. فهذه الدولة الشامخة الوليدة الحضارية الجديدة ضربت بهذا الفراغ الحضاري عرض الحائط، وخاضت تجارب التاريخ في وحدتها الصلبة، وقوّتها الناعمة التي تنبض إنسانية عالية تشهد الحضارات الراقية لها بعلو كعبها ورسوخ مكانتها اليوم في مختلف المجالات. فلم يعد عدد السنوات عقبة والإمكانات مستحيلة لأن إرادات أصحاب الرشادة في الفكر والسياسة والقيادة، أبت إلا اعتلاء صهوة التحديات والتغلب عليها لإثبات الذات التي تُحدث فارقاً حضارياً، وليس زمنياً فقط، لأن التاريخ أصبح متغيراً في قلب الحضارة المعاصرة. من هنا نستطيع القول إن كل يوم مضى من أيام الاتحاد كان بمثابة عام من الإنجازات النوعية على مستوى العالم وإن كانت اليد الفاعلة محلية تخطت الحواجز الإقليمية للتصدي لكل التحديات من أجل بلوغ العالمية في أرقى إنجازاتها الحضارية التي تسطّر صفحات من التاريخ للأجيال المقبلة، تُكتب بمداد من الفخر والعز، ورفعة الشأن، وبلوغ المعالي بوسائلها المعاصرة في كل تفاصيلها الحياتية والعملية. بعد خمسة وأربعين عاماً من الألق الحضاري، ماذا تريد الإمارات غير المشاركة الفاعلة في صناعة المستقبل لأجيالها، وتعليمها كيفية التعامل مع التحديات التي تواجه هذه الصناعة المصيرية؟ قال زايد الراحل الباقي منذ الأيام الأولى لهذا الاتحاد عن صناعة الرجال الذين يصنعون مستقبل وتاريخ هذه الدولة الفتية، مقارنةً بكل أعمار التاريخ الحضاري للأمم الأخرى، وهي أصعب من بناء المصانع، وقالها رفيق دربه راشد، رحمهما الله، عندما طلب منه الحديث عن إنجازات الاتحاد، فأبى إلا أن تعلن أعمالهم عن ذلك وليس إعلامهم. بناة هذه الدولة الاتحادية، أعلنت أعمالهم الفريدة عنهم قبل أن تصل ألسنة الإعلام الحديث إلى الناس أو الجماهير الغفيرة في شتى بقاع الأرض، لقد كنا في جولة تفقدية لحلبة ياس لـ«الفورمولا 1» قبل الانتهاء من بنائها بأيام، فسألتُ المسؤول عن هذه الزيارة ما قبل البدء الفعلي للسباق: ما الهدف الرئيسي من هذا العمل الجبار الذي أُنجز في فترة قياسية بمقياس البناء الزمني لأي مشروع حضاري بهذا الحجم؟ فقال لقد قمنا بمسح ميداني إحصائي عن عدد مشاهدي ومتابعي هذه الرياضة المثيرة، فكان الرقم مذهلاً فعلاً، فقد وصل إلى قرابة 600 مليون مشاهد في ساعة انطلاق الحدث العالمي، فيكفي أن هذا العدد الهائل يسمع عن الإمارات في لحظات الإثارة تلك. فقلت لمحدثي: تُرى لو دفع لكل واحد من هؤلاء دولاراً واحداً لمعرفة الإمارات من خلال هذا البعد العالمي للرياضة، أكان مبلغاً كبيراً لهذه القفزة التي قد لا تتكرر في تاريخ الأمم إذ، تقرر أن تبقى حية على مدار التاريخ الحضاري في اختصار الزمن عبر اختراق وسائله؟ هذا التقدم الحضاري الراقي للدولة يأتي في وقت تسوّق بعض الدول فيه نفسها عن طريق المزيد من الولوج في هدم بنيان الأمن والاستقرار بأيديها وأيدي معاونيها، تريليونات من الدولارات أُحرقت في أتون الصراعات العدمية، ولم تبنِ غير الخراب واليباب، إلا أن الإمارات أبت أن تكون جزءاً من هذا المشهد الذي يتكرر علينا على مدار الزمن المعاصر. فقد خطت الإمارات لنفسها طريق التنمية المستدامة باعتماد مسرعات المستقبل، ومحطات الفضاء المنطلقة إلى المريخ، وقطارات الكبسولات التي تصل بمن حولها في دقائق معدودات، تختصر خلالها الإنجازات العظيمة في ثوانٍ ثمينة. الإمارات النموذج الذي عشتُ فيه ومعه منذ البداية التي صافحت يدي وأنا في مقتبل العمر يد الشيخ زايد، رحمه الله، في قصره بمدينة العين، وقد قال لنا كلمته آنذاك «عيالي اللي تأمرونا به تم»، ولم يبقَ شيء منذ تلك الساعة لم يتم وأكثر، فاليوم يحق للدولة أن تحتفل بـ45 عاماً مرّت على ولادتها بجدارة حضارية تساوي 450 عاماً من عمر الإنجازات الحقيقية. وهنا وددت أن ألتقي ذلك الأستاذ الكريم لأخبره بأن الإمارات استطاعت فعلاً أن تملأ ذلك الفراغ الحضاري الذي وصفه بخمسمئة عام في غضون قرابة نصف قرن، مرّ سراعاً بمقاييس مسرعات المستقبل منذ الولادة وها هي تعلن للعالم أجمع أنها طلّقت كلمة المستحيل من قاموسها، كما أكد ذلك بوراشد في الكثير من المناسبات التي كان يحث فيها أبناءه نحو العلا بتوجهات من بوسلطان رافع راية التمكين للوطن والمواطن، فهنيئاً لك يا وطننا، يومُك بعامٍ، وإن شاء الله يأتي اليوم الذي يصبح بمئة عام.