يرد على ذهني الآن، مع حلول الذكرى الخامسة والأربعين لإطلاق اتحاد الإمارات، ما كنت أسمعه من أهل قريتي في صعيد مصر من حكايات عن المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، جمعوها مما كان يصل إلى أسماعهم وهم يعملون في مزارع العين، وتمتعوا كثيراً بسردها على آذان الناس في جلسات السمر الليلية وفي الحقول. وأتذكر أن هذه الحكايات كانت مفعمة بتقدير خاص للشيخ زايد، وترديد لمناقبه، ورصد لإدراك الإماراتيين أنفسهم، من أصحاب المزارع، لقيمة الرجل وقامته، ومدى حبه للون الأخضر، ومن ثم تحمسه للزراعة، وتشجيعه لها بكل ما تملكه الدولة من إمكانات. وأتذكر أن كثيراً منهم كانوا مطمئنين إلى أنهم لن يُظلموا في دولة الإمارات، وهم العمال المغتربون، لأن الشيخ زايد، فضلاً عن حبه لمصر وناسها وإدراكه لأهمية دورها وطيب علاقتها مع الإمارات، فإنه كان ينفر من الظلم، ولا يرضى أبداً لأي إماراتي أن ينسى أن الثروة جاءته هبة من الله تعالى، وأن للناس فيها حقوقاً، ولهذا عاش الرجل وله أيادٍ بيضاء على سائر العرب والمسلمين، بل امتدت أعماله الخيرية إلى الإنسانية جمعاء. ولا تختلف رؤية المثقفين المصريين للشيخ زايد كثيراً عن رؤية فلاحي قريتي، فما إن يأتي ذكر الرجل في محفل إلا ويعددون أقواله في فضل مصر وأهميتها، ثم يتفق الجميع على مآثره، الماركسي منهم والليبرالي والقومي والناصري، التابع للسلطة والمعارض لها، حتى أولئك الذين ينتقدون تجارب لبعض دول مجلس التعاون الخليجي، ويرون أن هناك آثاراً سلبية خلفها ظهور النفط على العرب، وأن الأمر لم يكن إيجابياً خالصاً، ليس بوسعهم إلا أن يستثنوا الشيخ زايد وتجربة اتحاد الإمارات من هذه الانتقادات. وكان إذا كتب كاتب مادحاً حاكماً أو أميراً تحدث الناس عن نفاقه، أما إن مدح أحد الشيخ زايد، قيل إنه يقر بما هو طبيعي، ولا غبار عليه. وكان المثقفون، في مواقفهم هذه، مأخوذين بأربعة أسباب في استثناء الشيخ زايد هي: 1- لم يبدد الشيخ زايد ثروة بلاده، مثل أولئك الذين استغلوا الثروات في خدمة أغراضهم الخاصة، بل وظف هذه الثروة في بناء بلده وتحديثه وتطويره. 2- حالة الرضا عن الشيخ زايد وطريقة حكمه وإدارته بين الإماراتيين أنفسهم، ليس فقط لأنه بالنسبة لهم الوالد ومؤسس الدولة وراعي الوحدة، بل لأن أقوال الرجل وأفعاله المتطابقة رسخت هذا الرضا، وكان الجميع يؤمن بأنه يعمل لصالح شعبه. وقد استمعت وقرأت ذات يوم للمفكر المصري الراحل د. محمد السيد سعيد، وكان معروفاً بنزاهته وتجرده ودفاعه الدائم عن بسطاء الناس وعن التقدم والحرية، قولًا لافتاً مفاده أن تجربة الشيخ زايد تقدم نموذجاً سياسياً مختلفاً، بوسعنا أن نسلط الضوء عليه، لنقول إن العرب أنتجوا تجربة سياسية حققت الرضا الشعبي، وبنت شرعيتها على أسباب أخرى غير التي تتحدث عنها الديمقراطية الغربية أو فلاسفة العقد الاجتماعي، وانحازت إلى التحديث، وعملت بكل جهد على تحقيق الخير للناس. 3- النزعة العروبية عند الشيخ زايد، فهو رجل تصرف طيلة حياته على أنه وبلده جزء لا يتجزأ من العرب، ولهذا انحاز لقضاياهم، ودافع عنهم، وكرس قسطاً كبيراً من جهده ومال بلاده في سبيل تحقيق هذا الهدف. ولهذا كان مسموع الكلمة بين حكام العرب، وإن قال شيئاً في مشكلة أو أزمة صدقه الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، وإن طلب شيئاً لا يرده أحد، لأن الجميع كانوا يعرفون نبل مقصده. 4- هناك تقدير لتجربة اتحاد دولة الإمارات، فكثير من التجارب الوحدوية العربية قامت وانفضت، وسادت ثم بادت، وبقيت تجربة الإمارات مختلفة، لأنها لم تقم على القسر والإجبار، أو الظلم والاستغلال، وإنما بُنيت على التفاهم والمودة، وترابط المصالح والانتماء. إن استعادة أقوال الشيخ زايد وأفعاله، تعبيره وتدبيره، طريقته ومساره، تقديره وعزمه، هي أمر مهم جداً في وقت يحتفل فيه الإماراتيون، ومعهم العرب، بذكرى مرور خمسة وأربعين عاماً على إنشاء اتحاد، لا يزال يضرب مثلًا على أن توحد العرب ليس أمراً عصياً، وهذه النقطة جاذبة جداً للقوميين والعروبيين في مصر، يركزون عليها كثيراً كلما حلت ذكرى إطلاق الاتحاد الذي حول سبع إمارات من «الإمارات المتصالحة» إلى «دولة الإمارات العربية المتحدة».