إذا كنتَ من المواظبين على متابعة ومشاهدة الأخبار التي أعقبت الانتصار الصادم لدونالد ترامب، فلن تُلام لو تملكك الاعتقاد بأن فرنسا يمكن أن تكون «قطعة الدومينو الثانية»، التي ستسقط بتأثير القوى الدافعة المتعاظمة لليمين المتطرف والحركات القومية الشوفينية المعادية للمهاجرين. وليس هناك من شك في أن رئيسة حزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف مارين لوبين التي تقود هذه الدعوة إلى «الصحوة العالمية»! يمكنها أن تغيّر الكثير من المعطيات السياسية الراهنة. ولم يكد ترامب ذاته ينطق بكلمة واحدة تعليقاً على انتصاره غير المنتظر، حتى راحت «لوبين» تسارع إلى نشر تغريدة التهنئة الحارة له على موقع «تويتر» بطريقة احتفالية. وفي اليوم التالي، قالت في تغريدة معبرة أخرى: «ليست هذه نهاية العالم»، وربما كانت تقصد بذلك أن «الأعظم آتٍ». إلا أن والدها السياسي المتطرف المخضرم «جان ماري لوبين»، مؤسس الحزب والمبتعد عن الأضواء، والذي بلغ الآن عامه الثامن والثمانين، قالها بوضوح أكثر على «تويتر» عندما نشر تغريدة قال فيها: «اليوم دور الولايات المتحدة وغداً دور فرنسا». ما بعد فوز ترامب كان قرع طبول الابتهاج في فرنسا الذي أعقب انتصار كلٍّ من ترامب في أميركا ولوبين في فرنسا، قد صمّ آذان الأوروبيين جميعاً خلال الأسبوع الماضي. وكتب محرر «فاينانشيال تايمز» جدعون راشمان في معرض وصفه لنوازع وأحاسيس «لوبين» بعد النصر الذي حققته مؤخراً بأنها «تحوّم في أفق العالم الترامبي»! وجاءت افتتاحية إحدى الصحف الفرنسية التي تقطر بمشاعر العداء للاتحاد الأوروبي تحت العنوان العريض: «أوروبا تهتزّ». وفضَّلت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية تزيين غلاف عددها الصادر يوم 19 نوفمبر بصورة جريئة «مدبلجة بالفوتوشوب» لترامب عامرة بالإيحاءات الثورية الأميركية القديمة وهو يدقّ طبلاً، وظهر فيها نيجيل فاراج (مهندس الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي) وهو في حالة طرب وانشراح ويدق طبلاً آخر، بينما كان فلاديمير بوتين منتشياً يعزف على المزمار. ولم تكن مارين لوبين، التي أطلق عليها الفرنسيون اسم «ماريان»، بعيدة عن هذا المشهد المثير، بل ظهرت في خلفية الصورة وهي ترتدي فستاناً يحاكي فساتين الإمبراطورة أوجيني (زوجة نابليون الثالث)، وكانت تقود الجماهير وهي تقبض بقوّة بيديها على سارية علم فرنسا ذي الألوان الثلاثة الأزرق والأبيض والأحمر. الأوهام الخبيثة إنه بحق مشهد لأوهام خبيثة سبق للفرنسيين أن تعلموا كيف يحصِّنوا أنفسهم ضدها. وهم الذين أصبحوا أكثر وعياً بعد أن لمسوا على أرض الواقع السياسي حجم الأخطار التي تكمن في أطروحات اليمين المتطرف قبل أكثر من عقدين، وأثبتت الظروف أنهم أصبحوا ناخبين نجباء سياسياً، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالتصدي للهزّات الارتدادية التي تهدد بتقويض الأسس التي يقوم عليها مجتمع التنوّع والتسامح. وكانت هذه المزايا التي يتمتعون بها حاضرة بقوة مساء الأحد الماضي 20 نوفمبر عندما خاض المحافظون الفرنسيون أولى حملاتهم للانتخابات الرئاسية لعام 2017، وكانت تلك هي دورتهم الافتتاحية. ووفقاً للقانون الانتخابي الفرنسي، فإن المرشح الذي لا يحصل على 50 بالمئة من الأصوات، عليه أن يخوض الجولة الثانية ضد أقرب منافس له. وسوف تنطلق الجولة الثانية اليوم الأحد 27 نوفمبر الجاري. وداعاً ساركوزي وانطوت نتائج الدورة الأولى على أخبار ومنعرجات سياسية مهمة. فلقد خرج الرئيس السابق نيكولا ساركوزي من السباق الرئاسي الجديد خالي الوفاض. وهذا السياسي اللامع والمحافظ ذو الشخصية المضطربة والذي بلغ عامه الواحد والستين، لا يعرف التعب، وكان قبل بضع سنوات من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في أروقة السياسة الفرنسية، أعلن اعتزاله السياسة في كلمة ألقاها الأحد الماضي على الرغم من أن النتائج الانتخابية للدورة الأولى لم تكن قد ظهرت بعد، إلا أن المؤشرات الأولى أظهرت له بكل وضوح أنه بعيد كل البعد عن منافسه رئيس وزرائه السابق اليميني المتطرف «فرانسوا فيون»، والمرشح الآخر وزير خارجيته السابق آلان جوبيه (السياسي المخضرم ذي الواحد والسبعين عاماً والذي شغل بدوره منصب رئيس الوزراء). وهكذا يمكن القول إن خطة ساركوزي للعودة إلى المعترك السياسي باءت بالفشل. وتميز خطاب اعتزاله بالقوة والصراحة حيث قال: «لم أتمكن من إقناع الأغلبية. وأنا أحترم إرادة الشعب. ويبدو لي أن الوقت قد حان للاهتمام بحياتي الخاصة أكثر من الاهتمام بمواقفي السياسية، أتمنى لكِ يا فرنسا حظاً سعيداً». وسبق لساركوزي أن قال كلاماً كهذا عندما خسر الانتخابات الرئاسية لعام 2012 أمام فرانسوا أولاند. وأغلب الظن أنه سيعود إلى الساحة السياسية من جديد لأنه يشعر في قرارة نفسه أنه أصبح رمزاً سياسياً، ولا يمكنه الانزواء بعيداً عن منعرجات العمل السياسي. وأما الآن، فإنه مما لا شك فيه أن أحلام عودته إلى «قصر الإليزيه» العام المقبل قد تبخرت تماماً. ولهذا السبب، يجب أن نحيّي فطنة وبُعد نظر الناخبين الفرنسيين. ويكمن سبب هزيمته في أن المحافظين أصبحوا محل انتقاد واسع النطاق لأن معظم المواطنين الفرنسيين، بمن فيهم الخبراء ومنظمو استطلاعات الرأي، يعتقدون أن مرشح يمين الوسط هو الوحيد القادر على الوقوف في وجه طموحات مارين لوبين ومنعها من أن تصبح الرئيسة المقبلة لفرنسا. وبالنظر إلى الضعف الذي يعتري «الحزب الاشتراكي» الحاكم، وتراجع شعبية الرئيس فرانسوا أولاند، فإنه من غير المحتمل أن يفوز مرشح اليسار. تحالف المحافظين واليسار ولو نجحت «لوبين» في الانتقال إلى الدورة الانتخابية الثانية، فإن المحافظين واليساريين الفرنسيين ستكون أمامهم فرصة تاريخية لتشكيل ائتلاف لسدّ الطريق أمام حزب «الجبهة الوطنية». ولقد حدث مثل هذا عام 2002 عندما وقف جاك شيراك في وجه جان ماري لوبين في أعقاب الهزيمة الساحقة التي لحقت بالاشتراكي «ليونيل جوسبان» في الجولة الأولى. وهكذا تمكن شيراك من اكتساح الجولة الثانية عندما فاز بنسبة 82 بالمئة من الأصوات وبما أثار الغضب في أوساط العنصريين. وخلال العام الماضي، بعد أقل من شهر على هجمات باريس الإرهابية، فعلها الناخبون الفرنسيون مرة أخرى في الانتخابات التشريعية المحلية التي نُظمت في شهر ديسمبر عندما اتحد المحافظون مع اليسار لوقف تقدم حزب «الجبهة الوطنية». وحتى تنجح هذه الخطة في عام 2017، كان لا بد لساركوزي أن يبتعد عن الأضواء لأنه بات يمثل «اللعنة» بالنسبة إلى معظم الناخبين المؤيدين للجناح اليساري الفرنسي. وخلال حملته الانتخابية، دعا إلى تشديد قوانين الهجرة في أوروبا كلها وتعهد بمنع النساء المسلمات من ارتداء الحجاب في الجامعات وبعض الأماكن العامة الأخرى (يذكر أن الحجاب وبقية الرموز الدينية ممنوعة في المدارس الفرنسية الحكومية لأنها تتناقض مع التوجهات العلمانية للدولة). والسؤال المهم المطروح الآن: هل لعب انتصار ترامب دوراً مؤثراً على توجهات الناخب الفرنسي؟ إن الجواب عن هذا السؤال غير واضح. ومعظم الذين قابلتهم قالوا إنهم اتخذوا قرارهم بالاختيار قبل انتخابات 8 نوفمبر في الولايات المتحدة إلا أن الفوز الصادم للحزب الجمهوري الأميركي عزز من قناعاتهم بالقرارات التي اتخذوها بهذا الشأن. مفاجأة فيون وكان الفائز الأكبر في جولة الأحد 20 نوفمبر هو الكاثوليكي المحافظ فرانسوا فيون الذي حصد 44 بالمئة من أصوات الناخبين. ويُعرف عنه إعجابه الشديد برئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارجريت تاتشر، وهو الذي زكّاه ساركوزي في خطاب اعتزاله. واشتهر فيون بمعارضته لتشريع قوانين الزواج المثلي فنال بذلك الكثير من أصوات الناخبين الذين يتفقون معه في هذا التوجّه. وكانت له جولة سابقة في هذا المجال عندما صوّت ضد مشروع قانون عُرض على مجلس الشيوخ عام 2013 ويقضي بإباحة الزواج المثلي عند الرجال، كما رفض تبني أي قانون يبيح الزواج المثلي للجنسين. «الإليزيه» على خطى البيت الأبيض ومع انقضاء ليلة الانتخاب، وبعد أن أصبحت النتائج واضحة، شعر بعض المدافعين من الرجال والنساء عن حقوق الزواج المثلي بالإحباط عقب الإعلان عن فوز فيون. ولقد تصادف أن يكون رئيس الوزراء السابق «فيون»، مؤيداً قوياً لفلاديمير بوتين. وهو يرفض الإطاحة ببشار الأسد وقال إن «إقصاءه يعني أن الأقلية من المسيحيين السوريين سيصبحون مخيرين بين الفرار والموت». وحتى «مارين لوبين» تشاركه موقفه هذا من نظام الأسد، فهي ترى فيه «قاتلاً جيداً للإسلاميين المتشددين»!، كما أنها من مؤيدي بوتين. ولو كانت الجولة الانتخابية الثانية ستدور بين «فيون» و«لوبين» وجهاً لوجه، فسوف يكون بوتين في منتهى السعادة خصوصاً بعد أن اكتسب صديقاً جديداً في البيت الأبيض اسمه دونالد ترامب. إلا أن الأمور ليست بمثل هذه البساطة. وذلك لأن اليساريين الفرنسيين، لا يبدو أنهم بصدد الاستسلام. واليوم أمامهم الجولة الثانية من الانتخابات، وهم يأملون بالفوز بأصوات المزيد من الليبراليين الغاضبين من مواقف فيون المناهضة لحقوق المثليين، وقد يحتكمون إلى فطنتهم الانتخابية التي نجحت في القضاء على أحلام ساركوزي بالعودة إلى «الإليزيه». ولو صدقنا استطلاعات الرأي، فإن الأمور تسير ضدهم، وأظهر أول استطلاع رأي يتم تنظيمه بعد الإعلان عن نتائج الجولة الأولى ليوم 20 نوفمبر، أن فيون سيحصل على 56 بالمئة من الأصوات في الجولة الثانية التي سيتم إجراؤها اليوم الأحد 27 نوفمبر بينما سيحصل آلان جوبيه على 44 بالمئة. ليلى جاسينتو: محللة سياسية فرنسية في شؤون أوروبا والشرق الأوسط وجنوب آسيا يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»