على خلفية التطورات المتلاحقة التي نشهدها في أميركا الآن، يتضح لنا أن الجزء الأكثر هشاشة في وطننا هو قِيمنا الديمقراطية. صحيح أننا نواجه مشاكل خطيرة أخرى، مثل الحالة الطبيعية المزرية لكوكبنا، إلا أن أمر تلك المشاكل يمكن أن يحسم خلال الأشهر والسنوات المقبلة، وأما ديمقراطيتنا ذاتها، فهي في حالة حرجة. وقد انتهينا لتونا من انتخابات سجلت فيها انتهاكات لا سابق لها للقيم الديمقراطية التي تمسك بها الأميركيون على مرّ العصور، ومنها الدعوات المتكررة لتقييد الحريات المدنية، والسماح لدولة معادية بالتدخل في شؤوننا الداخلية. وبالطبع، فإن المرشح الرئاسي الذي تحسب على حملته هذه الانتهاكات والخروقات، هو ذاته الذي فاز في الانتخابات في النهاية. والسؤال المطروح الآن: هل ستبدأ أميركا في التكيف مع هذا الوضع الجديد الذي ينطوي على قدر أقل من الممارسة الديمقراطية، وهل سيكيف دونالد ترامب أهدافه الخاصة ويغير خطابه كرئيس منتخب؟ قد يكون من الخطأ الكبير الركون إلى الاعتقاد القائل، إن ترامب يمكن أن يتغير بسهولة. ويبقى الافتراض الأقوى المتعلق بطريقة عمل أي مرشح يفوز بمنصب الرئيس هو محاولة تنفيذ كل ما وعد به خلال حملته الانتخابية. وقد أثبتت التجارب السابقة هذه الحقيقة. وسيكون من الخطأ أيضاً رفض أي حركة يتبناها ترامب في اتجاه التعبير عن احترامه للديمقراطية. وعلينا أن نعمل بإخلاص في اتجاه تحقيق هذا التحول. وربما يفكر ترامب بتغيير مواقفه من قضايا كثيرة. وما علينا إلا أن ننتظر حتى نرى. وكانت أولى التعيينات التي أعلن عنها ترامب هي تكليف «راينس بريبس» بمنصب رئيس فريق البيت الأبيض، و«ستيفن بانون» رئيساً للاستراتيجية، وهذا مؤشر يمكنه أن يدلّ على الرغبة في تغيير الكثير من الأمور. وذلك لأن «بريبس» يصنف على أنه «جمهوري» متشدد دأب على دعم سياسات أعتقد أنها ستؤدي إلى الإضرار بكوكب الأرض كله، وبالطبقة الوسطى من مجتمعنا، وستكون معارضتها أمراً مهماً. وقد اتخذت «رابطة مكافحة التشهير» موقفين متناقضين من إجراءات ترامب يوم الأحد الماضي. ففي بداية الأمر، أشادت بتعيين ترامب لـ«بريبس»، ثم وجهت بعد ذلك انتقاداتها اللاذعة لتعيين «بانون». ومنذ تعيينه رئيساً لموقع «برايتبارت نيوز» الإخباري، سارع «بانون» لتحويل ذلك الموقع إلى منصّة للتحريض على العنصرية والممارسات اليمينية المتشددة. وبالنسبة للصحافة الإخبارية وكبار المسؤولين السياسيين في واشنطن، فإن الخطر الحقيقي يكمن في قبول تعيينات كالتي أتت بشخص مثل «بانون». وقد وصف الباحث الاستراتيجي في الحزب الجمهوري «جون ويفير» التعيينات الأخيرة، التي أعلنها ترامب، بأنها تعد انتهاكاً للقيم الأميركية. وقال في تغريدة على موقع «تويتر»: «حتى نكون واضحين، نقول إن الرئيس المقبل كلّف رجلاً عنصرياً لا سامياً بمنصب رئيس فريق البيت الأبيض. وهذا أمر غير طبيعي ولا مقبول». وإذا كنت أنا شخصياً أعتقد أن الأمور ستسير بطريقة صعبة، فإن مبرر هذا الاعتقاد هو أن الناس تشعر بالقلق والتوجس. وستكون صعبة؛ لأن أي انحراف لترامب عن الوعود التي أطلقها خلال حملته الانتخابية وسيبدو وكأنه يندرج ضمن إطار النفاق. وعلى كل حال، يبقى «النفاق» أفضل من «الاستبداد». وحتى الآن، لا يزال المسار الحقيقي الذي سيسلكه ترامب مجهولاً. وعشية الانتخابات، أطلق خطاب النصر العامر بمشاعر الودّ. ومن خلال البرنامج الحواري الذي تبثه قناة CBS تحت عنوان «60 دقيقة»، نظر ترامب باتجاه الكاميرا، وقال مخاطباً أولئك الذين يضايقون الأقليات، داعياً إياهم لأن «يتوقفوا عن هذه الأفعال»!. وخلال الأسبوع الماضي، وبعد أن بثّ مجموعة من التغريدات «الباردة»، انتقد من خلالها المتظاهرين ضد انتخابه، وجد لنفسه الفرصة المناسبة للتأكيد للناس على الحق في التظاهر. وعلينا أن ننتبه إلى أن هذه المؤشرات الإيجابية الظاهرية لا تعني بالضرورة أنها تمثل «ترامب» جديداً، لأن مؤشرات أخرى صادرة عنه قد تعبر عن اتجاه معاكس. إلا أن الخطوات القصيرة أو المؤقتة باتجاه إعلاء قيم الديمقراطية تعتبر مهمة في كل الأحوال. وهي التي قال بشأنها الرئيس باراك أوباما الاثنين الماضي: «إن الإيماءات يمكن أن تكون مهمة». وربما كان الأشخاص الأكثر أهمية الآن في الولايات المتحدة هم «القادة الجمهوريون» الذين صوتوا لترامب. وهم يخططون الآن لإحداث تغييرات تشريعية تتفق مع تطلعاتهم وأهدافهم. إلا أن هناك واجباً وطنياً يتحتم عليهم الالتزام به، وهو واجب احترام التعددية والمساواة والتسامح العرقي وحكم القانون. وعلى عاتق هؤلاء يقع واجب تشجيع ترامب على احترام تلك القيم. وهو الذي يتوجب عليه أن يشجع النواب الجمهوريين جميعاً على الوقوف في وجه أي نائب يحاول انتهاكها. وكثيراً ما يفضل «الجمهوريون» أن ينعتوا أنفسهم بأنهم «حماة الحرية»، وكل ما نريده منهم الآن هو الارتفاع بممارساتهم وأفعالهم إلى مستوى أقوالهم. ديفيد ليونارد: محلل سياسي واقتصادي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»