في مقالي «أميركا تَتَفَكَّك»، المنشور هنا الشهر الماضي، كنتُ أضحك على أميركا، واليوم أضحك على أميركا معها. آنذاك توقعتُ فوز «دونالد ترامب» برئاسة الولايات المتحدة، فيما كانت أجهزة الإعلام الكبرى تستبق الانتخابات بإعلان فوز «هيلاري كلينتون» على هذا «المقاول الجاهل بالسياسة». وكان دليلي على فوزه قول الكاتب الأميركي الهزلي «مارك توين»: «من الواضح أنه لا شيء لا يمكن أن يحدث اليوم، وللنجاح في الحياة، تحتاج إلى أمرين: الجهل والثقة بالنفس». وثقة «ترامب» بنفسه بلغت حد إعلان عزمه على «تجفيف مستنقع الفساد في واشنطن»، وتَوَعَّدَ هيلاري خلال لقائهما السجالي بأن يُحقِّقَ معها عندما يصبح رئيساً، قائلا لها: «سَتُسجَنين». والآن ينادي محازبوها «عفا الله عما سَلَف»، فيما يواصل أنصار الرئيس الفائز الهتاف «اسْجنها». ويتوقع أبرز مستشاريه «غولياني» تعيين محقق محايد للنظر، ليس فقط في موضوع انتهاكها قواعد سرِّية بريدها الإلكتروني أثناء توليها وزارة الخارجية، بل أيضاً تلّقي «مؤسسة كلينتون الخيرية» رشاوى من حكومات بعض الدول. وعندما نراجع تقرير «مِنْ روسيا مع الفلوس»، الصادر عن «معهد المحاسبة الحكومي»، ندرك أن «مارك توين» كان يرى المستقبل عندما قال قبل نحو قرن: «قد يمكن بالوقائع والأرقام البرهنة على أن لا طبقة أميركية أصيلة تماماً فاسدة كالكونغرس»، فالتقرير المعروض في الإنترنت يتضمن تحقيقات «مكتب التحقيقات الفيدرالي» و«الجيش الأميركي» التي أكدّت تلّقي «مؤسسة كلينتون الخيرية» 35 مليون دولار من صناديق استثمارات روسية. و«اسْتَحْضِر الحقائق أولاً ثم العبْ بها كما تشاء»، حسب «مارك توين» دائماً. وهذا موسم لعب لا مثيل لِمَكرِهِ في تاريخ الإعلام. «نيويورك تايمز» التي وقفت بقوة إلى جانب هيلاري، تحذِّرُ من أن عزم «ترامب» على تغيير «مستنقع الفساد» سيكون معقداً ومكلفاً، وتذكر أن «بيروقراطية واشنطن متحصنة بالكونغرس»، ومع أن «ترامب» يملك بعض السلطة التنفيذية «فالحدود القانونية والعملية والسياسية ستكبح جهوده». ومَن لا يضحك على النقد الذاتي المتهافت لأساطين الإعلام، إذ يتساءلون: «كيف أخطؤوا جميعاً في توقع نتائج الانتخابات»، ويُعلّلون خطأهم بشخصية «ترامب» الغامضة، و«أمواج الأعماق الأميركية المؤيدة له»، ووقوعهم ضحية «الفقاعة الإعلامية» التي أنشؤوها بأنفسهم، وينعون «تخلِّيهم عن اتباع القواعد الموضوعية للصحافة عندما سلّموا بفشل ترامب» حسب «كريس والاس» عُمدة وكالة «فوكس نيوز»؟! ويتساءل رئيس تحرير «نيويورك تايمز» كيف «قلّلنا مع باقي مؤسسات الأخبار، قوةَ الدعم الذي كان لشخص غير اعتيادي كهذا، بل مثير للانقسامات؟». ويذهب المحرر الإعلامي للصحيفة حدّ تحميل الرئيس الفائز مسؤولية خطئهم، لأن «نواقصه كانت تحجب عنا رؤية المسائل الفعلية»! وبَلَغني اللعبُ الإعلامي عندما تلّقيتُ، كمشترك في «نيويورك تايمز»، رسالة بالإنترنت من الناشر ورئيس التحرير، تعتذر دون أن تعتذر «عقب انتخابات غريبة كهذه وغير متوقعة: هل قادتنا لا تقليدية دونالد ترامب التامة ومنافذ الأخبار الأخرى إلى التقليل من دعم الناخبين الأميركيين له، وما القوى والتوترات في أميركا التي قادت هذه الانتخابات ونتائجها الحاسمة؟ وأهم شيء، كيف سيحكم رئيسٌ شخصيته غامضة إلى حد كبير عندما يتولى المسؤولية الفعلية؟». ورسالتي الجوابية للناشر كانت فورية ومبتسرة: «خيبة أملي برسالتكم أكبر من خيبة أملي بتغطيتكم الانتخابات. كلاهما، الاعتذار والتغطية، ذَكَّراني بموقفكم خلال غزو بلدي العراق عام 2003، عندما شاركتم في أكذوبة (أسلحة الدمار الشامل العراقية). ومع ذلك أُعَبِّرُ عن امتناني لكم كمصدر رئيسي في كتاباتي الأسبوعية في صحيفة (الاتحاد) أكثر من عشر سنوات. وأتَطّلعُ اليوم فلا أجد مصدراً أفضَلَ. كان الله في عونكم على مواجهة مأزقكم، لأن هذا ما أنتم فيه عندما يفشل بشكل مزرٍ، حتى أحد أبرز كتابكم المشاركين، بول كروغمان (عالم الاقتصاد الحاصل على نوبل)».